في بلد أنهكته الأزمات المتشابكة، حتى بات التعليم الرافعة الأخيرة التي يتشبث بها اللبنانيون وسط الانهيارات المتتالية، جاء مشروع تطوير المناهج التربوية كفسحة أمل طال انتظارها. بعد أكثر من ربع قرن على اعتماد المناهج الحالية التي شاخت، كان يُفترض بهذا المشروع أن يكون نقطة تحوّل تعيد رسم مستقبل التعليم على طريق المعرفة والابتكار. إلا أن ما بدا كخطوة إصلاحية واعدة، سرعان ما انكشف عن مشهد مربك تشوبه الارتجالية، وغياب الشفافية والحوكمة الرشيدة، واستشراء المحسوبيات، وإهدار الموارد، لتتحول المبادرة من فرصة تاريخية إلى نموذج آخر لسوء الإدارة وإهدار الفرص.
ورغم الدعم الدولي عبر تمويل البنك الدولي لمشروع S2R2، والحاجة الملحّة الى تحديث المناهج، غابت الرؤية الشاملة، وافتقرت العملية إلى الشفافية والمعايير المهنية. انتقادات واسعة من التربويين والمفتشية العامة التربوية كشفت عمق الفجوات في التخطيط والتنفيذ، وفيما يُفترض أن تكون عملية تطوير المناهج وطنية وشفافة تخدم الجميع، تشير المؤشرات إلى مشهد مقلق. فقد تحوّل المشروع إلى ساحة فوضى حيث تُدار الأمور بمنطق المحسوبيات، وسط تساؤلات مشروعة ومصيرية تُهدد مستقبل هذا المشروع، بل ومستقبل التعليم في لبنان بأسره: هل هذا المشروع لإنقاذ التعليم، أم أنه خطوة أخرى تُضاف إلى قائمة الإخفاقات التي تُراكم أزمات البلاد؟ وهل سيبقى التعليم في لبنان حقلًا للتجارب الفاشلة أم سيجد طريقه نحو الإصلاح الحقيقي؟
منذ البداية، سادت الفوضى. تأُسِّست اللجنة العليا للمناهج بشكل مخالف للأصول، حيث كان من المفترض أن تقتصر عضويتها على وزير التربية وموظفي الفئة الأولى ورئيس الجامعة اللبنانية وعميد كلية التربية والمفتّش العام التربويّ ورئيسة المركز التربوي. لكن جرى توسيع اللجنة بإضافة أسماء عديدة وتعيين أعضاء تتعارض مسؤوليتهم التنسيقية مع الصفة التقريرية للجنة، ما أثار تساؤلات حول أهداف التوسيع والتعيين. أُطلقت وثيقة الإطار العام بعد تعديلات متتالية استجابة لسلسلة انتقادات ومقترحات، ورغم ذلك لم تخلُ النسخة الأخيرة من العيوب الجوهرية. وكرّست هذه التعديلات الشعور العام بأن المشروع يفتقر إلى كفاءة العمل والرؤية واضحة، حتى رأى البعض، أنّ التعديلات كانت مجرد إنشاء وإعادة صياغات.
وفي محاولة لمعالجة هذه الثُغر، انكبّ المركز التربوي على إعداد 11 ورقة بحثية مساندة، تُعنى بقضايا المقاربة بالكفايات وسياسات التقويم، السلم التعليمي وتنظيم السنة الدراسية، السياسة اللغوية، الفقدان التعلمي والمرحلة الانتقالية، الطفولة المبكرة، والادارة المدرسية، وغيرها. لكن العملية شابتها مشاكل عميقة، أبرزها اختيار أعضاء اللجان بناءً على المحسوبيات والتوزيعات الحزبية بدلاً من الكفاءة. نتج من ذلك أوراق ضعيفة حافلة بالتناقضات والمقترحات المنفعية. علاوة على ذلك، افتقرت العملية إلى الشفافية وتغييب مشاركة كافة الهيئات التربوية وممثلي المجتمع المدرسي في مناقشة الأوراق. كما تجاهل المركز التربوي الملاحظات المتكررة للمفتشية العامة التربوية، التي أصدرت في آب الماضي، بيانًا لاذعًا يفنّد العيوب القانونية والتربوية، معتبرة أن المناهج الجديدة لا ترقى إلى الإنجاز الوطني، وإنما عملية هدم لما تبقى من التربية، حيث تفتقر هذه الأوراق إلى الوضوح والاكتمال في قضايا أساسية مثل تقويم الكفايات، الدعم المدرسي، والسلم تعليمي.
أمّا أبرز الإشكاليات، أن بعض الأوراق المساندة اقترحت تشكيل هيئات ولجان ومراكز جديدة ذات طابع بيروقراطي لتعديل التشريعات والقوانين، تُهدد بإهدار المال العام وتفريغ المؤسسات القائمة (التفتيش التربوي، المركز التربوي، وزارة التربية) من بعض صلاحياتها، ما قد يخلق حالة من ازدواجية المهام بين عدة إدارات أو مؤسسات، أو تحقيق منافع شخصية لبعض المشاركين في اللجان، وخلق وظائف جديدة بهدف قوننتها لاحقًا. كما أن الاختيار من بين رزم الحقول المعرفية الأساسية للمتعلمين في الصف الحادي عشر غير قابل للتطبيق في الثانويات الرسمية من الناحيتين اللوجستية والأكاديمية. وزاد الأمر سوءًا مع تضارب المصالح في تشكيل اللجان. فقد جرى تعيين أساتذة جامعيين لصياغة مناهج مدرسية رغم افتقارهم الى الخبرة في التعليم ما قبل الجامعي. كما أن بعض أعضاء اللجان الذين أجروا مقابلات مع المرشحين كانوا أقل كفاءة وخبرة منهم، إلى جانب اختيارهم لأنفسهم في لجان المواد، ما يعكس فوضى تنظيمية تُهدد بإنتاج مناهج تفتقر إلى المعايير الأكاديمية.
وبدلًا من معالجة الملاحظات وإقرار الإطار الوطني والأوراق المساندة بموجب مرسوم صادر عن مجلس الوزراء، أطلق المركز التربوي دورات تدريبية للمكلفين كتابة المناهج، مما يخالف القوانين وينذر بإنتاج مناهج مشوّهة وغير قابلة للتطبيق، سيما أن عملية تدريب كتابة المناهج ستكون على سلم تعليمي يتضمن العديد من الثغر والشوائب، ثم استتبع ذلك إقرار بعض الأوراق المساندة المعدلة عبر اللجنة العليا من خلال تصويت برفع الأيدي، دون نشر الأوراق المعدلة، وقد جاءت بعض التعديلات تحث تأثير ضغط البيان اللاذع للمفتشية العامة التربوية.
إن ما يجري في مشروع تطوير المناهج الدراسية في لبنان ليس سوى مرآة لواقع أعمق من الانهيار الإداري والفساد المؤسسي في نظام تربوي يفتقر بأكمله إلى رؤية واضحة. وبدلًا من أن يكون التعليم ركيزة للتغيير، أصبح ضحية للمحسوبيات والقرارات العشوائية. ما يحتاج اليه لبنان ليس مجرد تطوير للمناهج، بل ثورة شاملة على طريقة إدارة هذا القطاع الحيوي. إذا لم يتحلَّ المسؤولون بالشجاعة والشفافية لمعالجة الأخطاء، فإن ما يُسمى "إصلاحًا تربويًا" لن يكون إلا خطوة أخرى نحو دفن مستقبل أجيال بأكملها. فإلى متى يبقى التعليم اللبناني رهينة مصالح ضيقة وحسابات شخصية؟ وهل سينجح العهد الرئاسي الجديد في وضع المشروع على خارطة الإصلاح الحقيقي وطريق الحوكمة الرشيدة؟
يتم قراءة الآن
-
دعم دولي لولادة حكومية قيصرية بثقة متواضعة الدوحة تعود الى بيروت من جديد... دعم للمؤسسات ونفط وغاز واشنطن لنتنياهو: لاستبعاد خيار تجدد المعارك في لبنان
-
ضغوط لإجهاض تفاهم سلام مع «الثنائي» حكومياً؟! حرد أرمني ــ سني... «التيار» مُهمّش و«القوات» ترفع السقف المبعوثة الأميركيّة تحمل الى بيروت نتائج لقاء تـرامب ــ نتانـــياهو
-
متى تفكيك سوريا...؟!
-
الحكومة قريبة ... "من يرضى يتمثل ومن يُعارض يخرج" سلام لسائليه : "حطوا السنة بضهري"... وهذا تصوّره للتمثيل المسيحي "القوات" تترقب... و"الإعتدال الوطني " ينتظر لقاء البعريني مع سلام اليوم
الأكثر قراءة
عاجل 24/7
-
13:52
الجديد: توجه نحو حل عقدة وزارات "القوات" بمنحها الخارجية والطاقة والإتصالات وهناك تفاوض على حقيبة رابعة
-
13:47
انزلاق شاحنة على طريق تل شيحا-الحي الوطني، نطلب من المواطنين توخي الحذر أثناء القيادة بسبب هطول الأمطار تفاديًا لحوادث السير والإنزلاقات
-
13:35
التحكم المروري: طريق ضهر البيدر سالكة امام جميع المركبات باستثناء الشاحنات
-
13:00
وزير خارجية بريطانيا: يجب أن يكون الفلسطينيون قادرين على "العيش وتحقيق الازدهار" في غزة والضفة الغربية
-
12:53
تحذير للسّائقين! تسرّب مادّة المازوت على طريق عام جعيتا مقابل مركز الدفاع المدني (مار الياس الراس) وتسجيل انزلاقات وتصادم في المحلّة
-
12:23
قطر أكّدت أنها "ستكون حاضرة" في ملف إعادة الإعمار في لبنان