اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

في سباق عالمي محموم نحو الابتكار والتكنولوجيا، يتراجع لبنان إلى الخلف مُعلناً إفلاسًا منهجيًّا في بيئته الابتكارية. فوفقًا لـمؤشر الابتكار العالمي 2024 الصادر عن المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO) ، حل لبنان في المركز 94 عالميًّا (من 92 في 2023)، من بين 133 دولة، وبعد أن غاب عن المؤشر عام2022، ليحلَّ في ذيل القائمة عربيًا (المرتبة 11 من 12 دولة)، والمرتبة 16 ضمن دول شمال إفريقيا وغرب آسيا، بينما تصدَّرت سويسرا القائمة العالمية كأكثر الدول ابتكارًا، تليها السويد والولايات المتحدة.

يُظهر "مؤشر الابتكار العالمي" تأخّرًا كبيرًا في أداء لبنان، حيث احتل المرتبة 128 في المؤسسات، مع تصنيف كارثي في البيئة المؤسسية (المرتبة الأخيرة - 133) واستقرار الأعمال التشغيلي الذي بلغ صفرًا. كما جاءت الحكومة في المركز 132 من حيث فعالية السياسات العامة، مما يعكس شللًا في الحوكمة المؤسسية وعجزًا في تنفيذ الخطط والخدمات، وتحوِّل المؤسسات إلى هياكل شبه فارغة. في الأداء التنظيمي، حل لبنان في المرتبة 124، مع ضعف في تنفيذ القوانين وسيادة القانون (123) وجودة التنظيم (125). ومع ذلك، أظهر تقدمًا نسبيًا في بيئة الأعمال (100)، حيث تفاوت الأداء بين استقرار السياسات الضعيف وجودة السياسات العالية، مما يشير إلى إمكانات غير مستغلة بسبب إطار مؤسسي غير فاعل.

أما قطاع التعليم، فإنه يواجه تحديات كبيرة تشمل نقص التمويل وضعف الأداء الأكاديمي، حيث لا يتجاوز الإنفاق الحكومي على التعليم 1.7% من الناتج المحلي الإجمالي (المرتبة 125)، ما يعكس إهمالًا ممنهجًا لهذا القطاع الحيوي. ورغم تحسن ترتيب لبنان إلى المرتبة 99 في مؤشر التعليم (118 في 2023)، فإن غياب بيانات تمويل الطالب الواحد يعيق تقييم جودة الاستثمار البشري. في التعليم الثانوي، تفوَّق لبنان بنسبة الطلاب إلى المعلمين، لكن أداءه في اختبارات PISA للقراءة والرياضيات والعلوم كان متواضعًا. من ناحية أخرى، حقق التعليم العالي إنجازات ملحوظة، حيث جاء في المرتبة 21 عالميًا، مع تصنيف جامعاته في المركز 52، وبلغت نسبة خريجي العلوم والهندسة 28.4% (المرتبة 28). كما تميز بجاذبية دولية، حيث يشكل الطلاب الأجانب 14.3% من إجمالي الطلاب (المرتبة 14). هذه المؤشرات الإيجابية تبقى نقطة ضوء، لكنها تحتاج إلى دعم مؤسسي وتعليمي أقوى لتعزيز إمكاناتها الكاملة.

في البحث والتطوير، احتل لبنان المرتبة 53 عالميًا، مما يعكس ضعف القدرات البحثية، حيث يشير التقرير إلى نقص الشفافية في البيانات، وغياب استثمارات الشركات الكبرى. ومع ذلك، حصل لبنان في التصنيف الدولي للجامعات على المرتبة 46 في تصنيف أفضل ثلاث جامعات عالميًا، مما يدل على جودة تعليمية تنافسية لبعض الجامعات، لكنها بحاجة إلى دعم حكومي وشراكات مع القطاع الصناعي لتعزيز تأثيرها العملي وتجنب العزلة عن واقع التنمية. ويُلاحظ أيضًا التناقض بين كمية التعليم وجودته، وغياب الربط بين الأبحاث الأكاديمية وحاجات السوق، مما يُهدر الطاقات الإبداعية في أوراق بحثية "للتجميل الأكاديمي" لا للتأثير المجتمعي. أما في مجال الاستدامة البيئية، فكان أداء لبنان ضعيفًا (المرتبة 101)، مع اعتماد منخفض على الطاقة النظيفة (4.4%) وتطبيق محدود لمعايير الإدارة البيئية.هذا الوضع يثير تساؤلات حول التزام لبنان بأهداف التنمية المستدامة، خاصة مع التحديات البيئية الكبيرة مثل أزمات الكهرباء والتلوث، وغياب التشريعات البيئية الصارمة والوعي المجتمعي الكافي، مما يُنذر بكارثة بيئية محتملة.

على صعيد البنية التحتية، يظهر لبنان في وضع مقلق (المرتبة 116)، ما يعكس تدهورًا كبيرًا في شبكات النقل والمرافق الأساسية، ويؤثر سلبًا على الحياة اليومية وجذب الاستثمارات الأجنبية. بالإضافة إلى ذلك، يتخلف لبنان في مجال التحول الرقمي، حيث يحتل المركز 98 في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والمرتبة 114 في الخدمات الحكومية الرقمية، مما يُظهر ضعفًا في الاستثمار التكنولوجي وغياب استراتيجية واضحة للتحول الرقمي.

وأظهر لبنان أداءً اقتصاديًا متناقضًا، حيث حقق مراتب متقدمة في سهولة الحصول على الائتمان (15) وتمويل الشركات الناشئة (12)، لكنه تراجع في جذب الاستثمارات الأجنبية (68) وسوق الأسهم (53) التي تبقى رهينة عدم الاستقرار السياسي. كما جاء في مراتب متواضعة في التنويع التجاري (77) والصناعي (75)، مما يبرز الحاجة إلى سياسات تعزز التنويع والابتكار.

في مؤشر تعقيد الأعمال، حل لبنان في المرتبة 80 مع أداء متوسط، حيث بلغت نسبة الوظائف المعتمدة على المعرفة 27.5% (المرتبة 52). ومع ذلك، تظل برامج التدريب في الشركات بحاجة إلى تحسين، إذ تقدّم 20.8% فقط تدريبًا رسميًا، كما يضعف الابتكار بسبب غياب بيانات البحث والتطوير الموثوقة، ووجود حاجة ملحة لتعزيز المهارات المعرفية وتطوير برامج تدريبية متخصصة. وبلغت نسبة النساء الحاصلات على درجات متقدمة في سوق العمل 14.6% (المرتبة 53)، مما يعكس حضورًا نسائيًا ملحوظًا أكاديميًا ومهنيًا، لكنه لا يزال دون الطموح بسبب فجوات تعيق تمكينهن الاقتصادي والاجتماعي، حيث يكمن التحدي في زيادة المشاركة النسائية وضمان وصولها إلى أدوار قيادية مؤثرة.

وأظهر التقرير ضعف الروابط بين القطاعات البحثية والصناعية (103)، وقصورًا في التعاون بين الجامعات والصناعة في البحث والتطوير (92). إضافة إلى ذلك، كانت الشراكات الاستراتيجية والابتكار بين القطاعات ضعيفة جدًا. .هذه الفجوة بين الأكاديميا والصناعة تعني أن الكثير من الأبحاث العلمية تبقى حبيسة الأدراج، دون أن تتحول إلى منتجات أو خدمات تسهم في النمو الاقتصادي.

في مجال امتصاص المعرفة، جاء لبنان في المرتبة 105، ما يعكس ضعفًا في القدرة على استيرادها واستخدامها بشكل فعال، إذ يعاني لبنان من فجوة " الاستيعاب الرقمي"، حيث تُستخدم التكنولوجيا المستوردة كسلعة استهلاكية بدلًا من مُدخل للإنتاج أو الابتكار، ما يحد من تأثيرها التنموي، إذ بلغت نسبة واردات التكنولوجيا العالية 8.3% من إجمالي التجارة (المرتبة 65)، ما يظهر اهتمامًا بالتكنولوجيا المتقدمة، لكنها تحتاج إلى سياسات داعمة لتحقيق الاستفادة القصوى منها. والأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن مدفوعات الملكية الفكرية سجلت صفرًا، مما يشير إلى غياب الاستثمار في الملكية الفكرية المستوردة. هذا الغياب يعكس عدم وجود استراتيجية واضحة لاستغلال المعرفة العالمية في تطوير الصناعات المحلية. وسجلت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر نسبة 3.8% من الناتج المحلي الإجمالي (المرتبة 37 )، مما يعكس ثقة المستثمرين الأجانب، ولكن تحتاج هذه الثقة إلى تعزيز عبر إصلاحات هيكلية لزيادة جاذبية لبنان كوجهة استثمارية.

في مخرجات المعرفة حقّق لبنان أداءً جيدًا في إنتاج المعرفة (المرتبة 31) والنشر العلمي (المرتبة 20)، لكن تأثير البحث العلمي (مؤشر H-index، المرتبة 64) بقي متواضعًا، مما يشير إلى ندرة الأبحاث اللبنانية المؤثرة دوليًا والتركيز على الكم بدل الجودة. ويعاني لبنان أيضًا من صعوبة تحويل المعرفة إلى نمو اقتصادي، حيث احتل المرتبة الأخيرة عالميًا (133) في تأثير المعرفة، مع غياب بيانات حول إنتاجية العمل. هذا الفشل يعكس غياب السياسات الداعمة والبنية التحتية اللازمة لتحقيق الاستفادة الاقتصادية من الأبحاث، مما يتطلب تعزيز الشراكات البحثية العالمية ودعم البحث النوعي.

أمّا في الإنتاج الإبداعي، حل لبنان في المرتبة 93 مما يدل على إمكانات إبداعية تحتاج إلى دعم أكبر، بينما جاء في المرتبة 118 في الأصول غير الملموسة، ما يعكس ضعف الاستثمار في العلامات التجارية والتصاميم. ومع ذلك، أظهر أداءً جيدًا في صادرات الخدمات الثقافية (20) وصناعة الأفلام (16)، مما يؤكد وجود طاقة إبداعية يمكن أن تسهم في الاقتصاد. في الإبداع الرقمي، جاء في المرتبة 60، مع أداء متوسط في تطوير تطبيقات الهواتف (47)، ما يشير إلى إمكانات رقمية تحتاج لمزيد من التطوير والاستثمار.

تراجع لبنان في "مؤشر الابتكار العالمي" لعام 2024 يُعد إنذارًا صارخًا للتحديات الهيكلية التي تعوق تحوله إلى اقتصاد قائم على المعرفة والابتكار. ففي وقت يتسارع فيه العالم نحو تبني التكنولوجيا كأداة للتنافسية، يجد لبنان نفسه على مفترق طرق: إما بناء نظام ابتكاري قوي أو الاستمرار في التردي. المستقبل يُصنع اليوم، والخيار بين الابتكار أو الاندثار أصبح بين أيدي صناع القرار. 

الأكثر قراءة

انجاز التعيينات الامنية الخميس... «تسوية» شقير وعبدالله أنقذتها؟ بري للخماسية: «وطني معاقب» واوتاغوس: مفاوضات الحدود قريبا الحجار يكسر الجمود... والبيطار على مشارف قرارات حاسمة!