اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

في فترة مفصلية من تاريخ لبنان، يشهد القطاع التربويّ تحولًا مهمًا بتعيين وزيرة جديدة من خارج المنظومة السياسية، والتي تتسلم وزارة تفتقر إلى رؤية إصلاحية واضحة لإنقاذ التعليم من حالته الراهنة. إذ تتشابك مشكلات هذا القطاع بين الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ما يجعل الإصلاح التربوي في سباق مع الزمن وسط مشهد تربوي يئنّ تحت وطأة الفساد، وغياب الحوكمة، وهيمنة المحسوبيات.

ورغم قتامة الصورة، يظل التعليم بارقة أمل لبناء الوطن. وما وثيقة "مبادئ العمل في التربية والتعليم العالي" التي وُضعت بين يدي رئيس الحكومة ووقّعتها الوزيرة قبل تسلمها منصبها، بالتعاون مع نخبة من التربويين، سوى خطوة في هذا الاتجاه، حيث تمثل هذه الوثيقة محاولة لرسم خارطة طريق جديدة لمسار القطاع التربوي، لكنها تظل رهينة الإرادة الجادة في التنفيذ، وفي تفكيك العوائق المتجذرة في النظام التعليمي. ولكن، هل تكفي هذه المبادئ وحدها لإحداث تغيير جذري؟ وما التحديات التي قد تعترض طريق تنفيذها؟ وما الأولويات العاجلة التي يجب التصدي لها؟ والأهم، هل يمكن أن تتحول هذه المبادئ إلى خطوات فعلية، أم أنها ستبقى حبرًا على ورق في غياب الإرادة السياسية والتنفيذية؟

تناولت الوثيقة مجموعة من الحقوق الأساسية للطلبة في لبنان من الروضة إلى التعليم العالي، تبدأ من الحق في الحصول على تعليم جيد يعزز قدراتهم المعرفية والمهارية ويحترم كرامتهم، والحق في بيئة تعليمية دامجة خالية من التمييز تضمن فرصاً متساوية لهم مع معلمين مؤهلين، بالإضافة إلى حقهم في بناء معرفتهم بأنفسهم (التعلم الذاتي) عبر الاستكشاف والمشاركة الفعالة في العملية التعليمية، والحق في التعليم الشامل الذي يدمج المعارف العلمية والتفكير النقدي مع التركيز على المواطنة وحقوق الإنسان، وتطوير مهارات التواصل الرقمي والمهارات اللغوية، إلى جانب الحق في تعليم يضمن فرص العمل، ويؤهلهم للبقاء في وطنهم مع حماية من البطالة والمنافسة الأجنبية.

في المقابل، أغفلت الوثيقة عددًا من الحقوق الضرورية مثل حق التلامذة في التعليم المجاني والإلزامي، وخاصة في المرحلة الابتدائية، والحق في بيئة تعليمية خضراء تُحول المدارس إلى فضاءات تعزز الوعي البيئي، وكذلك الحق في حماية البيانات والمعلومات الشخصية للطلبة، إلى جانب الحق في التربية على المواطنة الرقمية والأمان الرقمي.

ودعت الوثيقة إلى حوكمة القطاع التربوي، وهي خطوة محورية لضمان حقوق الطلبة والقضاء على الممارسات الملتوية وغير الفعالة في النظام التعليمي، من خلال تطبيق خمسة مبادئ أساسية: العدالة في توزيع الموارد لضمان استقرار وتطور الهيئات التعليمية، وثقافة القانون عبر تشريعات تُكرس الحقوق والشفافية والمحاسبة واللامركزية، والتسيير بالمعرفة من خلال الاعتماد على البحوث والدراسات لاتخاذ قرارات مستنيرة، والشفافية والمشاركة لتعزيز تعاون جميع الأطراف وضمان استقلالية المؤسسات التربوية، والفعالية في إدارة الموارد لتحقيق أفضل النتائج التعليمية. كما أكدت على ضرورة تبني المؤسسات التربوية للتقييم الذاتي المستمر ووضع خطط تطويرية بدعم من الوزارة.

غير أن هذه الحوكمة كانت لتصبح أكثر شمولية، لو تم دعمها بمبادئ إضافية، مثل الحوكمة الرقمية، والمساءلة بدلًا من المحاسبة لتعزيز الثقة والمسؤولية، ورشادة صنع القرار، والسلوك المهني وأخلاقيات العمل لتعزيز النزاهة، والتمكين لبناء قدرات العاملين في القطاع، والتنافسية الإيجابية نحو التميز المؤسسي، والاستدامة لضمان مستقبل تعليمي مستقر، وحوكمة الابتكارات والبحوث والمشاريع لتحفيز الإبداع والتطوير المستمر.

لا شك أن المبادئ التي طرحتها الوثيقة تشكل مجتمعة رؤية طموحة، ولكن تحقيق الحوكمة الرشيدة في التعليم اللبناني يواجه تحديات جسيمة نابعة من عوائق إدارية ومالية وسياسية وثقافية متشابكة، يأتي في مقدمتها التدخلات السياسية والطائفية التي تقوض استقلالية المؤسسات التربوية الرسميّة، وتعزز ثقافة المحسوبية، وتُضعف آليات المساءلة والشفافية واعتماد الكفاءة، وتُقلّص من فعالية النظام التعليمي. كما تلعب الأحزاب السياسية دورًا سلبيًّا في تغييب الإرادة السياسية اللازمة لتنفيذ الإصلاحات، وفي إعاقة أي رؤية تربوية وطنية موحدة لا تناسبها. إلى جانب ذلك، تُعد مقاومة التغيير والإصلاح من أبرز العوامل التي تُحافظ على حالة الجمود في النظام التربوي، حيث تقاوم بعض الفئات أي إصلاحات تهدد مصالحها الشخصية أو المؤسسية. كما تُشكل البنية التحتية الإدارية والرقمية الضعيفة عقبة كبرى، حيث تعيق الأنظمة الإدارية غير المؤتمتة اتخاذ القرارات السريعة والفعالة، وفي تحقيق المراقبة والمتابعة الحديثة. كما يُعاني النظام من نقص التمويل الكافي وانتشار البيروقراطية المترهلة، مما يُعيق الجهود الجادة لتحقيق الإصلاحات المطلوبة.

وأشارت الوثيقة إلى أن الدولة تؤدي دورًا أساسيًا في ضمان جودة التعليم والتماسك الاجتماعي من خلال التأطير عبر إصدار القوانين وضبط الأداء المؤسسي، والرعاية بدعم الجهود التربوية وتعزيز العدالة، والإشراف لمتابعة القطاعين العام والخاص وإجراء الإصلاحات. ولضمان تعافٍ مستدام للقطاع التعليمي، اقترحت الوثيقة خارطة الطريق على إجراءات عاجلة، تشمل مسح الخسائر التعليمية، إعادة توزيع الموارد البشرية، تحديث المناهج، وتأمين التمويل، إضافة إلى إصلاحات بعيدة المدى تركز على توظيف الكفاءات، تطوير التعليم المهني والخاص، وتعزيز استقلالية الجامعة اللبنانية، حيث تهدف هذه التدابير إلى بناء نظام تعليمي قوي قادر على تجاوز الأزمات وتحقيق التنمية المستدامة.

ولكن بالرغم من هذه الخارطة البنّاءة، إلاّ أنّ التعليم في لبنان يعاني من أزمات حادة تستدعي تحركًا لمعالجة التحديات الملحة. تتصدر الأولويات تأمين الاستقرار للمعلمين والتلامذة في التعليم الرسميّ، وتصحيح الأجور، وضمان التغطية الصحية والاجتماعية للمعلمين، وتقديم حوافز للتلامذة لمنع التسرب في ظل التراجع الكبير لعددهم في المدارس والثانويات الرسمية في السنوات الأخيرة. كما يتطلب الوضع الراهن تحسين البنية التحتية للمدارس، وإعادة إعمار المدارس المتضررة، ووضع خطة طوارئ لتعويض ما أمكن من الفاقد التعليمي والنمائي، حيث خسر التلامذة 49% من أيام التدريس بين 2016 و2025 وفقًا لمركز الدراسات اللبنانية، ما يستلزم برامج مكثفة لتعزيز المهارات الأساسية، ودعم التعلم المدمج، وتوفير برامج إرشاد ودعم نفسي للتلامذة، خصوصًا المتأثرين بالحرب الأخيرة.

ولتحقيق إصلاح فعلي، يجب ضمان التوزيع العادل للموارد، ومكافحة الفساد في التوظيف، وفي الإدارات التعليمية، وتفعيل اللامركزية لمنح إدارات المدارس الرّسمية صلاحيات أوسع، وضرورة التسريع في رقمنة التعليم من خلال تحديث البنية التحتية الرقمية، وإنشاء منصات تعليمية وطنية مجانية.

أما التمويل، يتطلب إصلاحه توجيه المساعدات الدولية إلى التعليم بشكل شفاف وعادل، وزيادة ميزانية التعليم ضمن الموازنة العامة. كما أن حماية الجامعة اللبنانية تتطلب تمويلًا مستدامًا، وتحسين أوضاع أساتذتها، وصون استقلاليتها من التدخلات السياسية في قراراتها وتعييناتها. وبات تشكيل "خلية أزمة تربوية" أمرًا ضروريًا لوضع وتنفيذ خطة إنقاذ شفافة وفعالة.

إضافة إلى ذلك، ينبغي إعادة إقرار القانون 515 المعدّل لإنصاف المعلمين المتقاعدين من المدارس الخاصة، وتعزيز دور لجان الأهل في مراقبة وإقرار الموازنات المدرسية، وإلزام المدارس الخاصة بتسديد اشتراكات المعلمين في صندوق التعويضات كشرط لمعاملاتها مع وزارة التربية. كما يستلزم الإصلاح حوكمة ورشة تطوير المناهج الحالية وفق معايير الشفافية والمساءلة والكفاءة بعيدًا عن التدخل السياسي، وتقويم مدى صلاحية تطبيقها وكفاءة المشاركين في صياغتها وكتابتها. وتقتضي الأولويات أيضًا وضع حد أمام الكارتيلات التي تتحكم في قطاع المدارس الخاصة، وضبط المدارس والجامعات المتفلّتة من القانون، ولا سيما التجارية منها، وضبط الأقساط العشوائية، وتشكيل المجالس التحكيمية للمدارس الخاصة، وفرض القوانين الصارمة لمنع الاستغلال المالي لأولياء الأمور، ووضع معايير علمية تضمن الجودة التعليمية والتوازن بين الخدمة التعليمية المقدّمة، والأقساط المستوفاة من الأهل، ووضع معايير صارمة في مراقبة الموازنات المدرسية وتدقيقها، ومكافحة ظواهر التسليع التربوي في المدارس.

أمّا الامتحانات الرسمية، فيجب حوكمتها لضمان نزاهتها وموضوعيتها وعدالتها، إلى جانب اعتماد معايير دقيقة لاختيار مديري المدارس والثانويات الرسمية، مع دورات تأهيلية وتدريبية مستمرة لهم، وتحديد مدة زمنية لولايتهم، لضمان تجديد القيادات التربوية وتعزيز كفاءتها.

إصلاح التعليم في لبنان ليس ترفًا ولا خيارًا مؤجلًا، بل هو استحقاق مصيري يحدد ملامح المستقبل للأجيال القادمة. ولا سبيل لنجاح أي خطة إصلاحية دون إرادة سياسية صلبة وقرارات حاسمة تعيد لهذا القطاع اعتباره بعيدًا عن المقايضات الطائفية والمصالح الضيقة. لقد آن الأوان لاعتماد نهج تربوي حديث يرتكز على معايير الجودة والشفافية والعدالة، وإلا ستظل أزمة التعليم عبئاً يرهق الطلاّب والمعلمين، ويقوّض دعائم الوطن بأسره. وما وثيقة المبادئ التي وقعتها الوزيرة، سوى التزام صادق منها بإحداث تغيير جذري يعيد للتعليم دوره كركيزة أساسية في نهضة لبنان. 

الأكثر قراءة

هل يقطع ترامب رأس نتنياهو؟