اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

لا يُخفى على أحد مدى عمق وتجذّر الفساد في لبنان! والأصعب أن تغلّغله في مؤسسات الدولة وإداراتها وتوسّع انتشاره أثّر ويؤثّر في كل جوانب الحياة الاقتصادية والمالية والنقدية والاجتماعية والمؤسسية. ويأتي التهرّب الضريبي كترجمة لهذا الفساد بحيث أصبح ثقافة يصنَّف على أساسها الفرد على أنه «شاطر» إذا استطاع التهرّب من دفع الضرائب. ووجد اللبناني لنفسه عذرًا للتهرّب من دفع الضرائب عبر ترداد مقولة «ماذا تُقدّم لي الدولة في المقابل؟». وإذا كانت هذه المقولة صحيحة، فإن هذا الأمر لا يبرّر الانزلاق إلى هذه الممارسات التي أصبحت كارثية على مالية الدولة وعلى المواطن نفسه.

الفساد المُستشري

عديدة هي المجالات التي تحوي على الفساد في لبنان بدءًا من القطاع الخاص وصولًا إلى القطاع العام. ولكل قطاع أربابه لخلق صلة الوصل بين الفاسد والمُفسد. تاريخيًا، أهم القطاعات التي يظهر فيها الفساد هي:

الجمارك: حيث إن مرفأ بيروت الذي يتلقّى أكثر من 70% من استيراد لبنان هو بؤرة للفساد وخسّر الدولة إيرادات قدّرناها في العام 2015 بأكثر من مليار ونصف المليار دولار سنويًا.

المناقصات العامة: حيث يتمّ التلاعب بالتسعير أو وضع الشروط على قياس شركة معيّنة محسوبة على أصحاب القرار. وبحسب تقديرات للبنك الدولي فإن قطاع الكهرباء وحده خسّر الدولة ما يقارب الـ 40 مليار دولار أميركي على مدى ثلاثة عقود.

الاتصالات مع تقرير ديوان المحسابة الذي تحدّث عن ستة مليارات دولار أميركي مجهولة المصير.

قطاع الطاقة: يهيمن على هذا القطاع قلّة قليلة من الأشخاص النافذين ويفتقر إلى الشفافية. وبحسب تقديرات البنك الدولي، تُقدر كلفة الفساد وعدم الكفاءة في هذا القطاع بأكثر من 2 مليار دولار سنويًا.

القطاع الصحّي: هذا القطاع (مستشفيات وضمان) يُخسّر الدولة مئات ملايين الدولارات سنويًا ، وهو مصاب بداء الفساد ولم تتمّ مساءلة أي شخص فيه.

النعليم الرسمي: ويشمل المحسوبية في التوظيف والتلاعب بالترقيات وإساءة استخدام الأموال المخصصة لبناء وصيانة المدارس. وتُقدّر الكلفة بعشرات ملايين الدولارات سنويًا.

التوظيف في القطاع العام الذي يُعتبر وسيلة لصنع الزعامة في لبنان، يكلّف الدولة حاليًا مئات ملايين الدولارات سنويًا (قبل الأزمة كان يكلّف أكثر من 3 مليارات دولار أميركي).

البلديات التي تتعاطى بشكلٍ مباشر مع الشركات والأفراد من دون رقابة فعلية. أما التقديرات فهي صعبة نظرًا إلى غياب الشفافية وخصوصية كل بلدية.

وفي مقال نشرناه في العام 2015، قدرنا آنذاك كلفة الفساد على لبنان بحدود عشرة مليارات دولار أميركي منها 5 مليارات كلفة مباشرة و5 مليارات كلفة غير مباشرة. وبلغت ذروة الفساد في لبنان حيث وصلت الأرقام إلى أكثر من 13 مليار دولار أميركي سنويًا خلال فترة الدعم المشؤوم في العام 2020.

لمكافحة هذا الفساد، يجب علينا معرفة أسبابه التي تبدأ بنظام المحاصصة الطائفية وضعف المؤسسات وغياب المحاسبة والظروف الاقتصادية والأمنية والسياسية التي مرّ بها لبنان من نهاية الحرب الأهلية في تسعينيات القرن الماضي. وبالتالي هناك ضرورة لتعزيز المساءلة والمحاسبة عبر هيئة مكافحة الفساد وهيئة التحقيق الخاصة والقضاء وديوان المحاسبة التي يجب حمايتها من أي تدخلات سياسية بكل الوسائل التشريعية والتنفيذية الضرورية.

التهرب الضريبي

أكثر من 70% من الاقتصاد حاليًا هو اقتصاد غير رسمي ومبني على الكاش حيث تمرّ العمليات التجارية تحت أنف الحكومة من دون قدرتها على قبض مستحقاتها نظرًا إلى أن الشركات والأفراد لا يقومون بالتصريح عن كل أنشطتهم. ويمكن القول إن كل المهن الحرّة بدون استثناء تُعاني من هذه الآفة. وبالتالي هناك أكثر من 10 مليارات دولار أميركي (بأقلّ تقدير) من النشاط الاقتصادي غير خاضعة للضرائب. وقد ساعد على ذلك الأزمة الاقتصادية التي عصفت بلبنان منذ العام 2019، وانهيار القطاع المصرفي، واعتماد التجار على الكاش في كل العمليات التجارية.

الاستيراد هو الباب الأهم في عملية التهرّب الضريبي حيث لا يتمّ التصريح عن القيمة الحقيقية للبضائع المستوردة. أكثر من ذلك، شهدنا منذ بدء الأزمة ظهور شركات تستورد لمصلحة التجّار من دون دفع رسوم جمركية ولا ضريبة على القيمة المُضافة (door-to-door)! أيضًا نظرًا إلى وضع الاقتصاد اللبناني وحجمه مقارنة بحجم الاستيراد، يُطرح السؤال عن مصدر تمويل هذا الأخير! وبحسب تقديراتنا المبنية على حجم الاستيراد مع رسوم جمركية تعادل المعدّل العالمي، هناك ما يزيد على ملياري دولار أميركي تهريب جمركي سنويًا.

وللعقارات نصيب كبير في التهرّب الضريبي حيث ومن دون مبالغة، لا توجد عملية واحدة مصرّح عنها بقيمتها الحقيقية! كذلك الأمر بالنسبة للإيجارات للسوريين أو النازحين من الجنوب خلال الحرب. أرقام تفوق مئات ملايين الدولارات الأميركية التي تمرّ من تحت أنف الحكومة.

معظم الشركات تمتلك دفترين للمحاسبة: واحد للتصريح عنه وآخر فعلي. وبالتالي لا يتمّ التصريح عن كل شيء، لا بل أكثر من ذلك العديد من الشركات التي تجني أرباحًا، تُقدّم بيانات مالية تُظهر فيها خسائر حتى لا تعمد إلى دفع الضرائب وهو ما يمثّل أكثر من 3 مليارات دولار أميركي خسائر على الخزينة سنويًا نصفها يأتي من الضريبة على القيمة المضافة (بيع من دون فواتير).

كذلك الأمر بالنسبة للأفراد الذين يمارسون مهنًا حرّة حيث يتمّ القبض نقدًا وبالتالي لا يتمّ التصريح عن القيمة الفعلية للنشاط الفردي. وتُقدّر الكلفة بعدّة مئات ملايين الدولارات سنويًا.

وبحسب صندوق النقد الدولي، تبلغ قيمة التهرب الضريبي الإجمالية في لبنان ما بين 4 إلى 5 مليار دولار أميركي سنويًا، تعود أسبابه إلى ضعف تطبيق القوانين، تدخل أصحاب النفوذ، اقتصاد الكاش، والنظام الضريبي. وبالتالي لمكافحة هذه الظاهرة، يجب محاربة اقتصاد الكاش وخلق قاعدة بيانات مشتركة عن العمليات التجارية بين وزارة المال والجمارك، ووزارة الاقتصاد، ومصرف لبنان، بالإضافة إلى تأمين استقلالية القضاء وإنفاذ القوانين.

 التداعيات على الناتج المحلّي الإجمالي

يعلم القاصي والداني أن الحديث عن عجز موازنة «صفر» في موازنتي العامين 2024 و2025، هو كلام غير جدّي نظرًا أقلّه إلى حذف مستحقات الحكومة العراقية من الفيول والبالغة حتى الساعة مليار دولار أميركي (بالليرة اللبنانية)! من هذا المنطلق هناك إلزامية لمحاربة الفساد والتهرب الضريبي نظرًا إلى الوقع الإيجابي على خفض عجز الموازنة من باب: تقليل الفساد الذي يؤدّي إلى خفض النفقات؛ وزيادة الإيرادات الضريبية عبر تحسين الجباية والرسوم.

إلا أن هذا الأمر لا يقف عن هذا الحد، فالتداعيات الإيجابية ستنسحب على النمو الاقتصادي حيث وبمحاكاة بسيطة (أنظر إلى الرسم البياني)، نرى أن التأثير قد يرفع النمو الاقتصادي إلى حدود الـ 5% من دون أي إصلاحات أخرى حتى فترة زمنية معيّنة. ومن ثم يجب إجراء إصلاحات أخرى للاستمرار في رفع النمو الاقتصادي.

وبانتظار أن تفصح الحكومة عن خطّتها لمحاربة الفساد والتهرّب الضريبي وخارطة الطريق لتطبيقها، يجب التذكير بأن السيادة تتضمّن أيضًا السيادة المالية للدولة على أراضيها من باب تحصيل الضرائب والرسوم والفواتير المستحقّة.


الأكثر قراءة

عون في الرياض اليوم... ترقّب لاختراق كبير نتنياهو يستخدم سلاح التجويع في غزة خلال رمضان حزب الله للحكومة: ننتظر الافعال لا الاقوال