كأنّ صيدا تتهيّأ لخوض سباق طويل على حلبة من الترقّب والترقّب المضاد، سباق لا تُقاس فيه المسافات بعدد الأمتار، بل بثقل الرموز وتشابك التحالفات وتكسّر الثوابت القديمة. ها هي المدينة تقف على عتبة استحقاق انتخابي يوشك أن يتحوّل إلى مرآة عاكسة لكل التناقضات والهواجس والتطلعات دفعةً واحدة، في مشهد يبدو أقرب إلى لعبة شطرنج مفتوحة، تحرّك فيها القوى السياسية البيادق من خلف الستار، من دون أن تلوّث أيديها رقعة المواجهة المباشرة.
في انتخاباتٍ لا تعلن فيها الأحزاب عن أسماء مرشحيها، بل تتوارى خلف لوائح "مستقلة" الشكل وحزبية النبض، يتقدّم الناس إلى الصدارة لأول مرة، يحملون معهم أصواتهم، وربما انتقامهم الصامت من سنوات التهميش والإهمال. فالقرار هذه المرّة ليس لحزبٍ أو زعيم، بل لشارعٍ اختبر الانهيار وتذوّق طعم الفوضى، وها هو يُمنح فرصة ليقول كلمته، ولو من بين غبار لوائح متعددة ومتشعبة المصالح.
وسط هذا الاشتباك الانتخابي الذي ينبىء بـ "أم المعارك"، تبرز لافتة مشرقة وسط الزحام: ترشّح عدد من الأشخاص ذوي الإعاقة في مشهد غير مألوف، لكنه بالغ الدلالة. وكأنّ صيدا، في زحمة تنافسها السياسي والعائلي والمناطقي، تعلن عن انفتاح جديد على فئات طالما تمّ تهميشها، لتُفسح المجال أمام كفاءات خَبِرت الهامش وتجرّعت الغياب، لكنها ما زالت تمتلك الإرادة لتكون في قلب القرار.
إنه اختبار صيداوي استثنائي بامتياز، لا يقتصر على الأرقام ولا على توزيع المقاعد، بل يتعداه إلى إعادة تعريف المشاركة وإعادة اكتشاف الذات الجماعية للمدينة. ومع اقتراب ساعة الحسم، تبقى الأنظار شاخصة نحو مفاجآت اللحظة الأخيرة والمقابلات التي ستكشف عن طموحات تتجاوز الإعاقات الجسدية لتطال صميم الإعاقة السياسية والاجتماعية التي كبّلت المدينة لسنوات.
مرحلة جديدة وبداية "موفقة"!
من جهتها، تكشف سيلفانا اللقيس، رئيسة الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركيًا ومنظمة حملة "حقي" للحقوق السياسية، لـ "الديار"، أنّه "للمرة الأولى، ورغم كل الصعوبات وضيق الوقت الذي أُعلن فيه عن الانتخابات البلدية، فإننا في حملة "حقي" نثمّن جدًا الخطوات المتقدمة التي شاهدناها، إذ إنها المرة الأولى التي يكون فيها مرشحون ومرشحات من الأشخاص المعوقين بهذا الانتشار وهذه القوة، وقد فاز بعضهم، فيما لم يحالف الحظ البعض الآخر.
وهناك مرشحون في محافظة الجنوب، وتحديدا يوجد اثنان في صيدا، وجميعهم مميزون. لكن الميزة الأهم بين الذين ترشحوا من ذوي الإعاقة وغيرهم، هي أنّ هذه القضية التي يحملونها تهدف إلى تحقيق المساواة والدمج، وإن كان المنطلق لدى البعض يتمثل في مسألة الإعاقة، إلا أنها ليست المسألة الوحيدة؛ فالكل يطرح قضية الإعاقة إلى جانب الإصلاح وسائر القضايا الملحّة الأخرى".
وتشرح أنّه "عندما نتحدث عن المساواة والدمج، نكون قد عالجنا جميع المشكلات، وهذه هي الميزة. ولم أقصد فقط ميزة قضايا الإعاقة والأشخاص المعوقين، إذ إن حلّ مشكلة الدمج يتطلب المساواة بين جميع الناس وتحقيق العدالة. كما ساعدت حملة "حقي" الأشخاص المعوقين على ممارسة حقهم في الانتخاب بكرامة واستقلالية، فقد أسهمت أيضا في إحداث تحوّل مهم في الثقافة الاجتماعية التي تُعدّ معرقلة، مثل الدرج الذي يشكل عقبة أمام الأشخاص الذين يستخدمون الكرسي المتحرّك، فضلًا عن العوائق الرقمية، وهي أيضًا تشكل عائقًا أمام الأشخاص المكفوفين في حال لم تكن العملية الانتخابية مكيّفة".
وتبين انه "بالإضافة إلى العامل الثقافي في المجتمع، وهو حاجز إذا كان قائمًا على أحكام مسبقة مستندة إلى ما هو شائع، لا إلى واقع الأشخاص وما يحملونه من قدرات. وسنواصل السعي للمساهمة في نشر الوعي والمعلومات وبناء القدرات".
وتضيف: "للمرة الأولى في هذه الدورة، تمكّنا من تنفيذ تدريب للكادر الإداري في المحافظات والاقضية حول كيفية التعامل مع الأشخاص المعوقين، سواء أناخبين كانوا أم مرشحين، وذلك لأننا للمرة الأولى لمسنا التزاما فعليا وتدابير من قبل وزارة الداخلية لنقل الأقلام من الطوابق العليا إلى السفلى، وإن كان ذلك قد تمّ بنسب متفاوتة".
وتؤكد "نحن نُدرك أنّ الكثير لم يتحقق بعد، لكن ما نبني عليه هو الجدية التي لمسناها لدى الوزارة، والتي تجعلنا نصدق ونثق بأننا سنعمل معا بلا توقف من الآن وحتى الانتخابات النيابية، بخلاف ما كان يحدث في كل المرات السابقة، إذ كانت الوزارات المعنية، فور انتهاء الانتخابات، تضع هذا الملف جانبا. في حين أن الواقع يتطلب ألّا يُزجّ الملف في الأدراج، بل أن يُستكمل العمل عليه من خلال التحضير والتسهيل المستمر لإزالة العوائق، ومنهجة هذه الحقوق ضمن مسار مؤسّسي، حتى تتمكن جميع الدوائر والأقضية من أداء دورها من دون إعادة تكرار المشكلات في كل مرة".
وتعتبر أنّ "عدد المرشحين والمرشحات من مختلف المناطق، الذي تجاوز العشرة في الانتخابات البلدية، ومثلهم في انتخابات المخترة، يُعدّ محطة فارقة وبداية لمرحلة جديدة لا تقبل العودة إلى الوراء".
ذوو الإعاقة شركاء فعليون!
في سياق انتخابي بلدي صيداوي، تقول مزين ناصر صباغ، مرشحة عن عضوية بلدية صيدا مع لائحة نبض البلد لـ "الديار": "ان ترشّحي للانتخابات البلدية هو امتداد طبيعي لعملي المجتمعي خلال العامين الماضيين. فمنذ تأسيسي لجمعية UpHandicup، انطلقت من إيمان راسخ بضرورة تمكين ذوي الاحتياجات الخاصة، والعمل على إيصال صوتهم إلى أصحاب القرار. ومع مرور الوقت، أدركت أن المطالبة بالحقوق، مع انها، لا تكفي وحدها، وأن التغيير الحقيقي لا يتحقق إلا من داخل مواقع التأثير. من هنا، قررت أن أكون شريكة فعلية في صناعة القرار، لا مجرّد مطالبة به من الخارج. وبالتالي، من خلال نشاطي في الجمعية، تعرفت عن قرب إلى واقع المجتمع وتحدياته المتعددة، التي طالت كل الفئات، وليس فقط ذوي الاحتياجات الخاصة".
الدمج الشامل حق!
وتتابع "اولا، رسالتي واضحة وتتمثل في أن يكون صوت ذوي الاحتياجات الخاصة حاضراً في قلب المجالس البلدية، لأن مدينتنا لا يمكن أن تكون عادلة إلا إذا كانت دامجة، شاملة، ومعدّة للجميع دون استثناء. وثانيا، بصفتي من ذوي الاحتياجات الخاصة، ومن تجربة شخصية مباشرة، أستطيع أن أقول بكل وضوح ان صيدا ليست بعد مدينة مهيّأة للجميع. من الأرصفة غير الصالحة للتنقّل، إلى المؤسسات العامة التي تفتقر إلى المصاعد، وحتى إشارات المرور التي لا تراعي ذوي الإعاقة البصرية، هذه ليست مبالغة، بل تفاصيل أعيشها يوميا. لذلك، وصولي إلى المجلس البلدي، إذا تم عبر الانتخابات، لن يكون لتجميل الصورة أو إطلاق وعود، بل لنقل هذه التجربة كما هي، والعمل على تحسين الواقع خطوة بخطوة، بطريقة عملية ومدروسة. صيدا تستحق أن تكون مدينة دامجة بالفعل، لا بالشعارات بل بالتنفيذ".
مسار عملي متكامل لتمكين ذوب الاعاقة
وتضيف: "انطلاقاً من صلاحيات المجلس البلدي، أضع في صلب برنامجي مسارًا عمليًا ومتدرّجًا لتأمين حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة في مدينة صيدا يقوم على ثلاث ركائز أساسية:
أولها، تأهيل البنية التحتية. فكما سبق وذكرت، تفتقر صيدا إلى الحد الأدنى من التهيئة العمرانية التي تكفل تنقّلاً آمناً وكرامة معيشية للأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة. من هذا الواقع، أؤمن أن أول خطوة نحو العدالة تبدأ بجعل المدينة قابلة للعيش للجميع. سأعمل، إذا ما أُتيح لي أن أكون جزءاً من المجلس البلدي، على وضع ملف البنية التحتية الشاملة ضمن أولويات العمل، بدءاً من تأهيل الأرصفة والمرافق العامة لتصبح متاحة وسهلة الاستخدام، إلى تخصيص مواقف سيارات واضحة وفعّالة لذوي الإعاقة، مع السعي الجدي لفرض معايير دامجة عند التخطيط لأي مشروع عمراني جديد أو حتى عند ترميم القائم منها".
وتشدد على أن "الدمج لا يتحقق فقط عبر البنية، بل يتعدّاها إلى ما هو أعمق: الاعتراف بدور الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة في النسيج الاجتماعي والاقتصادي للمدينة".
ثانياً، سأعمل على بناء شراكات فعلية مع المؤسسات التعليمية لتأمين بيئة تربوية دامجة، تُشعِر الطفل أو الطالب بأنّه لا يُعامل كحالة خاصة بل كجزء طبيعي من المجتمع. وسأدعم تشجيع المؤسسات الخاصة والعامة على فتح أبوابها أمام هذه الطاقات عبر آليات دعم أو تحفيز، تعزّز استقلاليتهم الاقتصادية وتمكّنهم من العيش بكرامة. ومن موقع المسؤولية، سأدعم المبادرات التي يشارك فيها أو يقودها ذوو الإعاقة، وسأحرص على تخصيص مساحات بلدية تحتضن الأنشطة والبرامج التي تعزّز التفاعل الإنساني بين الجميع، بعيداً عن العزلة أو الصور النمطية".
أمّا الركيزة الثالثة فهي الثقافة والتوعية، وهي برأيي الأساس الذي يسبق حتى التشريعات والتعديلات العمرانية. فالمجتمع الذي لا يرى في ذوي الاحتياجات الخاصة مواطنين كاملي الحقوق والقدرات، سيبقى عاجزاً عن تحقيق أي دمج فعلي، مهما طُوِّرت الطرقات أو الأبنية".
وتختم "من هنا، أعتبر أنّ التغيير الحقيقي يبدأ من الوعي، من تغيير النظرة السائدة، من التربية على احترام الاختلاف وتقدير التنوع البشري. في هذا الإطار، سأعمل على إطلاق حملات توعوية بالتعاون مع المجتمع المدني والمؤسسات الإعلامية والمدارس، تهدف إلى كسر الصور النمطية".
يتم قراءة الآن
-
معركة زحلة حسمت الجمعة... تعليمة جوية وصلت الضاهر: STOP
-
نتنياهو يهدّد وأورتاغوس تساوم... لبنان يردّ بالتفاهمات والترقب انتكاسة لمخزومي في بيروت: طموح السراي يصطدم بضعف التمثيل السني «بلديات المتن»: نيكول الجميّل تتحدى ميرنا المرّ في معركة الاتحاد
-
أورتاغوس: إمّا لاس فيغاس أو غزّة
-
اورتاغوس تصعّد من الدوحة ولبنان يصر على «الحوار» بيروت تستعد لصيف بلا عتمة... وصندوق النقد غير راضٍ
الأكثر قراءة
عاجل 24/7
-
16:41
سي آي إيه: إغلاق بوابة المقر الرئيسي للوكالة القريب من العاصمة واشنطن في ولاية فرجينيا بعد حادث إطلاق النار.
-
16:40
وسائل إعلام أميركية: إطلاق النار على سائقة بعد محاولتها اقتحام بوابة مقر المخابرات المركزية الأميركية بفرجينيا، والحادثة هي الثانية في مقر وكالة المخابرات المركزية خلال شهرين.
-
15:35
مكتب المرجع الراحل السيد فضل الله: الجمعة 6 حزيران أول أيام عيد الأضحى المبارك
-
14:54
عراقجي: تهديد إسرائيل بالهجوم على منشآتنا النووية السلمية خطر على السلام والأمن الإقليمي والدولي
-
14:54
الخارجية الإيرانية: الرسالة الإيرانية للأمم المتحدة "إنذار جاد" قبل اتخاذ خطوات دفاعية
-
14:25
حكومة كتالونيا: إغلاق ممثليتنا للشؤون الخارجية في تل أبيب
