من طبائع القوة، أي قوة، هي أنها لا تستسلم تماما عشية هزيمة مشاريعها في مكان وزمان محددين، لكنها تمضي للمحاولة من جديد بوسائل، وأدوات، شتى انطلاقا من معايرة المستجدات أولا، ثم عملا بـ «تدوير الزوايا»، الذي يعني هنا تغييرا في السياسات بما يتلاءم مع هذه الأخيرة . ألم تذهب فرنسا نحو تأسيس رابطة « الفرنكفونية»، للشعوب الناطقة بالفرنسية، كوسيلة للمحافظة على نفوذها، ولو بالحد الأدنى، في مستعمراتها السابقة قبيل أن تزول» شمسها « عنها عشية خريف العام 1956 ؟ ثم ألم تذهب نظيرتها البريطانية، التي تشاركت معها فعل أفول الشمس عينه، لتعويم» الجنيه الإسترليني» كوسيلة لتحقيق المأرب الفرنسي ذاته؟
كانت محاولات الترميم، واستعادة «المجد» الإمبراطوري، قد بدأت مع وصول فلاديمير بوتين إلى سدة السلطة بالكريملن أواخر العام 1999، وهي سوف تتوالى بدءا من آب 2008، الذي شهد حربا روسية مع الجارة الجيورجية المتطلعة غربا، ثم تمر بضم شبه جزيرة القرم آذار 2014، قبيل أن تصل إلى « عاصفة السوخوي»، أيلول 2015 التي كانت إيذانا بدفاع عسكري عن موسكو عند الحدود السورية، ثم لتبلغ مداها الأقصى شهر شباط 2022، الذي شهد انطلاق «العملية العسكرية الخاصة» في أوكرانيا، وفقا للتوصيف الذي استخدمته موسكو، والتي شكلت افتراقا مع الغرب على ضفتي الأطلسي، والمؤكد هنا أن ملامح استعادة «المجد» الإمبراطوري كانت تستند، في ذهنية بوتين، إلى محاور ثلاثة، الأول يعمد إلى كسر شوكة الغرب الماضي في تمدده صوب التخوم الروسية، و الثاني يهدف إلى تغيير التوازنات القائمة في القارة العجوز، الخادم بدوره للمحور الأول، انطلاقا من الجغرافيا الأوكرانية التي سيصفها بوتين لاحقا بـ «المصطنعة»، ثم الوصول إلى «المياه الدافئة»، الهدف الذي ما انفك يغوص عميقا في الذهنية الاستراتيجية الروسية منذ زمن القياصرة ولايزال .
على امتداد عقد، واجهت محاور النهوض الثلاثة، آنفة الذكر، الكثير من العقبات، فالحرب الأوكرانية مضت إلى حال من «الستاتيكو» العسكري، لم تستطع «الحماوة» الحاصلة فيه بين حين وآخر، تحقيق أي جديد جديد على صعيد «المكاسب» المأمولة، والتي تدرك موسكو أنها لن تحصل إلا بتوافق مع الغرب، وتحديدا مع رأس حربته الأميركية، الأمر الذي يبدو بعيدا، برغم «التفاؤل» الذي انتابها عشية وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مطلع هذا العام ، فللأمر حساباته المعقدة، وإذا ما مضت مواقف هذا الأخير نحو تجاوز الخطوط الحمر الأوربية فقد يشكل هذا « فراقا» غربيا على ضفتي الأطلسي من الصعب إيجاد تلاقيات له، أما محطة 8 كانون أول 2024 السورية فكانت كما «الجرح الغائر» الذي قد لا يندمل خلال وقت قصير، لكن الرهان الآن هو على معالجته بـ «مرممات» قد تحيي بعض الأنسجة التالفة.
لم تتأخر موسكو في محاولة مد جسورها صوب دمشق - الشرع، فبعيد وصول هذا الأخير إلى قصر الشعب، بنحو خمسين يوما، زاره وفد روسي رفيع برئاسة نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف رفقة المبعوث الخاص الكسندر لافرنتييف، وبعدها بنحو اسبوعين أجرى بوتين اتصالا بنظيره السوري، وكلا الفعلين هدفا إلى تصدير رسالة مفادها أن موسكو أيقنت بوجوب طي مرحلة الأسد تماما، وإن تفكيرها بمستقبل العلاقة مع دمشق لا تراه رهينا بالحمولات التاريخية لتلك العلاقة، ولا بحالة «رغبوية» قد تكون نابعة من هذه الأخيرة، بل تتحدد بالتموضع الجيوسياسي الجديد لدمشق، والذي كانت تنظر إليه موسكو، وهو يغذ خطاه سريعا نحو الغرب، بقلق مشروع، لأن نجاحه تماما سيعني تهتك النفوذ الروسي البادئ بوضوح في سورية منذ العام 1957 عندما ذهب الزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف إلى تهديد تركيا على خلفية نشر قواتها على الحدود السورية في أعقاب نشر تقارير غربية مفادها تجاوز الشيوعيين لكل الخطوط الحمر بوصول عفيف البزري لرئاسة الأركان السورية مطلع هذا العام الأخير .
تثلثت الخطوتان السابقتان بواحدة لا تقل أهميتها عنهما، تلك التي تمثلت بلقاء وزيري خارجية البلدين على هامش «مؤتمر أنطاليا» المنعقد شهر نيسان المنصرم، لكن المحطات الثلاث لم تفض إلى تهدئة أجواء المفاوضات الجارية بين الطرفين، والتي تهدف إلى تطبيع العلاقة بينهما، ثم تقرير مصير قاعدتي «حميميم» و«طرطوس»، فبعيد أسابيع على لقاء «أنطاليا» وجه لافروف انتقادات لاذعة لحكومة دمشق وصلت الى حد اتهامها بتنفيذ «عمليات التطهير العرقي والديني الجماعية»، كما انتقد مواقف الغرب من تلك الممارسات، في إشارة تؤكد أن موسكو تنظر إلى التقارب السوري الغربي على أنه تهديد مباشر لمفاوضاتها مع الحكومة السورية المؤقته، والمؤكد هو أن في الأمر ما يدعو إليه، إذ لطالما كان أكيدا أن تسارع العجلات السورية صوب محطات الغرب تتناسب عكسا مع فعل نظير لها صوب المحطات الروسية .
ثمة أمر آخر قد يمثل إحدى العقبات الكبيرة أمام وصول تلك المفاوضات إلى مآلاتها المرجوة روسيا، وهو أن دمشق - الشرع تتوجس من الجغرافيا التي تقوم عليها القاعدتان الروسيتان، وهما، وفق تصنيف الأخيرة، تقبعان في عمق «حاضنة» النظام السابق، وبين ثنايا خزانه البشري الذي أمده بالقدرة على الاستمرار طوال أربعة عشر عاما هي عمر الاستعصاء السوري، ولم تكن مصادفة أن تعقب حادثة استهداف قاعدة «حميميم»، إعلان الرئاسة السورية عن تأثر المفاوضات بين الطرفين، كما لم تكن مصادفة أن تنتمي المجموعة التي قامت بالفعل، في غالبيتها، إلى النسيج «الأوزبكي» الذي يبدي الروس حساسية فائقة تجاهه جنبا إلى جنب النسيج الشيشاني، وللأمر دلالاته التي يأخذها هؤلاء، من دون شك، بعين الاعتبار، والأمر سوف يتخذ، فيما بعد، صيغا وتلونات متعددة كانت قد تمظهرت بقيام سلطات دمشق بفرض قيود على تحركات الديبلوماسيين الروس، بل وتعدتها إلى عرقلة دخول «زملائهم» من لبنان إلى سورية.
هنا، يمكن النظر للدعوة التي وجهها لافروف يوم الثلاثاء الماضي لنظيره السوري لزيارة موسكو على أنها محاولة لإحداث اختراق في جدارات راحت تتعالى مداميكها شيئا فشيئا، ولربما من الصعب لها، في حال حدوثها، تحقيق شيء يذكر في هذا السياق لاعتبارات عديدة، لكن الرهان هنا يصبح على ألا تظل موسكو بعيدة عن انجذاب دمشق المتزايد صوب ضفاف الأطلسي، وكذا الوقوف على المديات التي وصل إليها، فالخروج من المشهد تماما يمكن له أن يشكل «انتكاسة» روسية جديدة لا تقل في تداعياتها عن تلك الحاصلة فجر 8 كانون الاول الماضي.
الأكثر قراءة
-
إسرائيل تفشل في تحقيق أهدافها وتطلب تدخل واشنطن اتصال بريطاني ــ لبناني يؤكد:لا مصلحة لبيروت في خوض الصراع قلق خليجي من تسرّب نووي...وتحذيرات من كارثة إقليمية
-
الفرزلي: قانون الإنتخاب الحالي خلاصة اتفاق باسيل وجعجع... والأرثوذكسي" الأنسب"
-
"التايمز": أميركا تحتاج إلى إذن بريطانيا لشن ضربات انطلاقاً من قاعدة دييغو غارسيا
عاجل 24/7
-
10:22
رئيس الجمهورية جوزاف عون: لبنان مدرك اليوم انه دفع غالياً ثمن الحروب التي نشبت على أرضه وفي المنطقة وهو غير راغب في دفع المزيد ولا مصلحة وطنية في ذلك
-
09:48
إعلام "إسرائيلي": الجيش يرفع حالة التأهب على الحدود مع لبنان بعد الهجمات الأميركية على إيران
-
09:14
سقوط صاروخ اعتراضي "إسرائيلي" في وسط الطريق الفرعي بين وادي السلوقي ومستشفى ميس الجبل قرب قلعة دوبيه جنوبي لبنان
-
07:47
إذاعة الجيش "الإسرائيلي": القادة السياسيون والعسكريون يعقدون اليوم جلسة تقدير وضع استعدادا للسيناريوهات المتوقعة
-
07:46
وسائل إعلام "إسرائيلية": صفارات الإنذار تدوي من رأس الناقورة شمالا حتى أسدود جنوباً مرورا بـ"تل أبيب".
-
07:46
القناة "12" "الإسرائيلية": بلاغات أولية عن سقوط صواريخ في وسط وشمال "إسرائيل" بشكل مباشر
