اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

تبرز قضية الصحفي الأميركي أوستن تايس مثالا صارخا على التحديات التي يواجهها الصحفيون العاملون في مناطق الصراع الساخنة، كما وتذكر بأهمية حرية الصحافة التي يمكن لها أن تلعب دورا هاما في تسليط الضوء على تلك الصراعات، جذورها وأسباب تجدد نارها الراهن ثم تطوراتها، وصولا إلى تشكيل «رأي عام» حولها، غالبا ما يكون ذي تأثير وازن على غرف صناعة القرار السياسي وهي تمضي لإتخاذ قرارتها حيال تلك الصراعات، والفعل يزداد تأثيره خصوصا في البلدان التي تمايزت فيها الطبقات والكتل والتيارات حتى غدت عنصرا فاعلا، وضاغطا، على تلك «الغرف».

تدحرجت قضية الصحفي الأميركي أوستن تايس على مدى يقرب من ثلاثة عشر سنة حتى غدت مسألة من الصعب فيها على أي رئيس أميركي تجاهلها، والشاهد هو أنها كانت على رأس أولويات الإدارات الثلاث التي تعاقبت على السلطة في واشنطن منذ أن انحدرت من «تلال» داريا ذات صيف من العام 2012، والمؤكد هو أنها لن تقف سوى عند قاع وحيد من شأنه أن يقطع الشك باليقين حيال مصير أوستن حيا كان أم ميتا، وفي الغضون راح «الكل» ينحو باتجاه «الإستثمار» في الحدث، ولربما كان في الأمر الكثير ما يدعو إليه، فأي «مكسب» يعادل ذاك الذي يمكن أن يتأتى من فعل يمتزج فيه الإنساني بالسياسي اللذان، إن امتزجا وتحصلا على نتيجة، تساقطت «الثمار» في «السلال» حتى أتخمتها.

تقول السيرة الذاتية للرجل أنه صحفي أميركي مستقل، وضابط قديم في سلاح المشاة البحرية سبق له أن خدم في أفغانستان والعراق، وتضيف السيرة أنه راح يتابع التقارير المتضاربة الواردة من سورية في أعقاب اندلاع النار فيها ربيع وصيف العام 2011، وفي حينها كتب «هذه مصيبة يحتاج العالم إلى معرفتها»، وعليه كان القرار بوجوب معايرة الحدث عن قرب، والشاهد هو أنه استطاع أن يكون شاهدا مستقلا تعتد بشهاداته كبريات وسائط الإعلام الغربية، من عيار «الواشنطن بوست» و «سي بي إس»، على الرغم من قصر مهمته الميدانية التي لم تدم لأكثر من أربعة أشهر بدأت في أيار  2012 بالوصول إلى حمص على الأرجح، ثم القدوم إلى دمشق أواخر تموز الذي تلاه، حيث ستكون آخر تقاريره التي أرسلها يوم 11 آب على مبعدة ثلاثة أيام من اختطافه الذي كان في داريا بريف دمشق.

توجهت أصابع الإتهام أولا إلى فصيل رديف للجيش السوري السابق كان يسمى»قوات الدفاع الوطني»، وفي أيلول 2012 جرى بث فيديو قصير يظهر فيه تايسون وهو معصوب العينين، وفي مواجهته مسلح لا يخفي مظهره انتماؤه، وهو يطلب منه ترديد شهادة الإسلام في محاولة لترسيخ الفعل الأول إذا ما شابه الظنون، إلا أن خبراء أميركان رجحوا أن يكون الفيديو «مفبرك»، وهدفه إبعاد الشكوك عن «المتهم» الأساسي الذي أشارت أصابع الإتهام الإميركية إليه، حيث أكد متحدث باسم الإدارة الأميركية أنه «يعتقد بناء على المعلومات القليلة التي يمتلكها أن تايس محتجز لدى الحكومة السورية»، وفي كانون أول من العام 2018 ظهر والدا تايس في بيروت ليعلنان إن «ابنهما لا يزال على قيد الحياة» وليرسما «خارطة طريق»، كان من الصعب على واشنطن تجاهلها، لاستعادة هذا الأخير بقولهما إن «أفضل فرصة لإطلاق سراح تايس هو مفاوضات مباشرة ما بين حكومتي البلدين»، إلا أن حكومة الأسد أصرت على إنكارها بأن لا علم لديها عن قضية الصحفي الأميركي، بل ولا عن دخوله «الذي لم يكن شرعيا»، وفقا لتصريح أدلى به مسؤول إعلامي زمن تلك الحكومة، والراجح أن الأسد كان مدركا جيدا لأهمية «ورقة» تايس، فيما سلوكه حيالها يشير إلى أنه لم يكن يرى أن المطروح «على الطاولة»  معادلا، كثمن، لسعر تلك الورقة.

شكلت لحظة 8 كانون أول المنصرم فرصة بدت سانحة لطي تلك الصفحة بأي شكل كان، لكن إخلاء السجون الذي تلا هذي الأخيرة لم يغير في الأمر شيئا، ولم يظهر أي أثر لتايس يمكن أن يكون دالا عليه، وفي الغضون راحت «الإستثمارات»تبرز على السطح، فقد عرضت «قناة الحدث»، يوم 12 كانون ثاني المنصرم، أي بعد يومين من إعلان واشنطن عن مكافأة قدرها 10 مليون دولار لمن يدلي بمعلومة تقود لمعرفة مصير تايس، تقريرا مصورا مرفقا بصوت لصحفي سوري، وهو يظهر شخصا مستلقيا، معالم وجهه غير واضحة، قيل أنه تايس بعد أن ذكر، لمن حوله، أنه صحفي أميركي، ليتبين فيما بعد أن ذلك الشخص هو فعلا كما ذكر، لكن اسمه ترافيس تيمرمان، لكن اللافت في التقرير أنه ذكر أن مكان تواجد ذلك الشخص هو في قرية «الذيابية»، قرب «السيدة زينب»، التي كانت تحت سيطرة «حزب الله» كما ذكر التقرير، وفي 12 أيار المنصرم ذكرت وسائل إعلام أميركية خبرا مفاده «العثور على رفات أوستن تايس في مقبرة جماعية بمرج دابق شمال حلب»، ليتبين فيما بعد أن فريقا قطريا قام بحملة بحث عن المقابر الجماعية، مطلع أيار، التي كانت «نتاجا» لسيطرة «داعش» على أرياف واسعة في حلب بدءا من العام 2014 فصاعدا، وقد أكد مختار «مرج دابق» في حديثه للـ«التلفزيون العربي» أن الفريق قام بأخذ عينات من الجثث بغرض إجراء فحص DNA الذي يمكن له حسم هوياتها، لكن لم تؤكد أي جهة الحصول على أية معلومة بخصوص تايس الذي كان بالتأكيد إحدى أبرز غايات ذلك الفريق.

كان التحقيق الإستقصائي الذي نشرته «هيئة الإذاعة البريطانية BBC» قبل أيام محطة فارقة في هذا المسار، حيث سيشير التحقيق إلى أن الوثائق التي استند إليها تتمتع «بمصداقية أكيدة» بعد التأكد منها من قبل خبراء بالهيئة، وآخرون تابعين لـ«هيئة إنفاذ القانون»، والتقرير، الذي استند أيصا إلى شهادات لضباط استخبارات سابقين، يؤكد أن تايس «كان مختطفا لدى نظام الأسد»، فيما يقول مسؤول أنه كان محتجزا في «سجن الطاحونة»، ليؤكد آخر أنه «بقي في ذلك السجن حتى شباط من العام 2013 على الأقل، عندما بدأ يعاني من مشاكل في المعدة، كما كشفت تحاليله الطبية أنه كان يعاني من عدوى فيروسية»، ويضيف التحقيق أن تايس «كان قد هرب من سجنه لفترة قصيرة من خلال نافذة زنزانته، لكنه أسر من جديد»، والراجح هو أن ذلك حدث، وفقا للتحقيق عينه، في الفترة الواقعة بين أواخر العام 2012 و مطلع العام 2013 .

المؤكد هو أن التحقيق فيه الكثير مما «يثري» ملف تايس، لكنه لم يخلص إلى النتيجة المرجوة وهي تحديد مصير هذا الأخير، ولربما لم يفصح معدوه عن كل المعلومات التي استحصلوا عليها، لكونها، ربما، تمثل خطرا على حياته، فيما لو كان لا يزال على قيد الحياة، أو تعيق الوصول إلى رفاته إذا ما فارقها .

في 18 كانون ثاني المنصرم التقت والدة تايس، ديبرا تايس، بالرئيس السوري أحمد الشرع، وهي قالت، في أعقاب اللقاء، إن «الرئيس وعدها بالكشف عن مصير ابنها»، لكن سياقات الأشهر الخمس المنصرمة توحي بأن ما من متغير كبير في طربقة التعاطي مع المسألة، وإذا ما كان البعض، من عيار أفراد أو مؤسسات، طامحا بجائزة الـ10 مليون دولار، فإن آخرين طامحين بجوائز تبدو هذي الأخيرة، في مواجهتها، كما لو أنها «فتاتا» يرضي طموحات الأولين فحسب.


الأكثر قراءة

عتب في لقاء الـ45 دقيقة ... سلام يستحضر الهتافات... والحزب يردّ : النجمة لا العهد!