اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

حتى مطلع شهر أيار المنصرم، كان ملف «المقاتلين الأجانب» نقطة خلاف كبرى بين الإدارة السورية الجديدة من جهة ، وبين الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي من جهة ثانية، لكن الملف سيغادر تلك الصفة بعيد اللقاء الذي جمع بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره السوري في الرياض يوم 14 من هذا الشهر الأخير، وهو الإجتماع الذي سيمثل نقطة تحول جذرية في ذلك الملف، جنبا إلى جنب ملفات أخرى لم تكن أقل خلافية منه.

و المرجح هنا، أن ثمة تلاقيات كبرى كانت قد حدثت في ذلك اللقاء ، هي أقرب لحلول «كلمات متقاطعة» وجدت على عجل ، ولعل العثور عليها هو الذي يفسر «الليونة» التي بدت طاغية على مواقف واشنطن في العديد من الملفات، التي كانت تنظر إليها الإدارة السورية الجديدة على أنها ضرورية لتبيت سلطلتها واستقرارها، ولازمة لضمان عدم انفراط

«عقد الفصائل» المنضوية تحت راية «ردع العدوان»، التي انطلقت من حلب يوم 27 تشرين ثاني، لتحط رحالها سريعا في دمشق يوم 8 كانون أول الذي تلاه، معلنة عن ذلك السقوط المدوي لنظام الأسد الذي كان يمثل . ولا شك، نقطة توازن هامة في نظام دولي نجح الأسد الأب في تحصينها جيدا، قبيل أن « ينجح» الإبن في تهشيم مرتكزاتها رويدا رويدا، حتي غدت تلك» النقطة» كما لو أنها عبئا على ذلك النظام لا مناص من تحييده.

سريعا ما راحت مخرجات اللقاء تتكشف. ففي يوم الإثنين 2 حزيران اعلن المبعوث الأميركي إلى سوريا توماس باراك، أن «الولايات المتحدة وافقت على خطة طرحتها القيادة السورية الجديدة، تقضي بانضمام الآلاف من المقاتلين الأجانب إلى الجيش الوطني»، قبيل أن يضيف «شريطة أن يتم ذلك بشفافية»، معللا ذلك بقوله إنه «من الأفضل إبقاء هؤلاء المقاتلين ضمن مشروع الدولة بدلا من إقصائهم».

وعلى مبعدة يوم واحد من ذلك الإعلان، اعلنت وزراة الدفاع السورية، من خلال تصريح مسؤول فيها لقناة «الجزيرة» القطرية، إن «قيادة الجيش السوري أصدرت قرارا بضم مقاتلين أجانب إلى صفوفه» . وفي تقرير لوكالة «رويترز» نقلت فيه عن ثلاثة مسؤولين بوزارة الدفاع قولهم إن «الخطة تنص على انضمام 3500 مقاتل أجنبي إلى وحدة مشكلة حديثا»، هي الفرقة 84 التي ستضم مقاتلين سوريين أيضا.

واقع الأمر أن مسألة بهذا الحجم تثير العديد من الإشكاليات، والكثير الكثير من الأسئلة التي ستكون الإجابة عليها صعبة أقله في الوقت الراهن. ولعل الأبرز من الأولى الإشكاليات، اثنتان أولاهما أن «كلمة السر» جاءت من واشنطن، وهذا لوحده كاف للقول بأن «مسلّمة» عدم جواز التدخل الخارجي في الحروب الداخلية للدول قد سقطت، وسقط معها عدم جواز تدخل المقاتلين الأجانب في صراعاتنا. ولا يكفي هنا لتبرير فعل من هذا النوع القول بأن نظام الأسد السابق كان قد قام بفعل شبيه ، من نوع استجرار مقاتلين من شتى بقاع الأرض، وإذا كان الأمر صحيحا، فذاك لا يعني وجود «مشروعية» لاستنساخه.

وثانيهما الذريعة التي وردت على لسان المصدر السوري لوكالة «رويترز»، والتي تقول إن «انضمام هؤلاء للجيش السوري أفضل من استبعادهم، الذي سيدفعهم تجاه «القاعدة» وتنظيم «داعش» . وإذا كانت الذريعة قد أقنعت واشنطن ، كما يبدو ، لعدم وجود ساحة ساخنة يمكن لها أن تقذف بهم إليها راهنا ، فإنها لا تصمد كثيرا أمام المسارات التي اختطها هؤلاء منذ نشأتهم . فالحزب «التركستاني الإسلامي»، وهو يمثل الغالبية الساحقة في نسيج المقاتلين الأجانب في سوريا، موجود في أفغانستان منذ عقدين على الأقل ، وموجود منذ 13 عاما في سوريا، ومع ذلك، لم تُسجَّل حركة ذات وزن لمقاتليه باتجاه أيٍّ من كلا التنظيمين.

والثابت هو أن الخط البياني لتلك الحركة لم يسجل ارتفاعا يتعدى سقف العشرات، بل ولربما كانت جل تلك الحالات ذات دوافع شخصية أو مالية، بمعنى أن لا جذور «عقائدية» لها، وإذا كان الحزب قد بنى فعلا علاقات وثيقة مع «القاعدة» و«داعش» و«طالبان»، فإن تلك العلاقات ظلت في إطار التحالفات التي تفرضها حالات من نوع التلاقي عند أهداف مرحلية ، ولم تتعداها إلى نظيرتها «التنظيمية» التي يمكن لها، في حال حدوثها، أن تبرر تلك الذريعة.

في الثانية الأسئلة، هناك الكثير مما يمكن إثارته في هذا الملف ، فإذا ما كان «المخرج» أميركيا، فهل هذا كاف لنجاح «العرض» بغض النظر عن جودة السيناريو وكفاءة الممثلين؟ وبمعنى آخر هل يمكن لأميركا وحدها توفير وضمان ديمومة المناخين الإقليمي والدولي المواتيين للسوريين لأمد طويل يبدو لازما؟ وكفيلا لعدم وصول الكيان السوري إلى الإنفجار؟ ثم ما هو موقف الإدارة السورية الراهنة من أهداف الحزب، الذي ينادي بقيام حكم ذاتي في إقليم الإيغور الصيني، الذي يطلق عليه اسم «تركستان الشرقية» ؟ وإذا كانت الإجابة بنعم : ألا يرخي ذلك بحمولات على مواقفها القائلة برفض كل أشكال «اللامركزية السياسية»، التي تعالت المطالب بها من قبل العديد من المكونات السورية مؤخرا؟ وماذا سيكون موقف الصين التي تصنف ذلك الحزب على قوائم الإرهاب؟ وهل حسم القرار برمي « البيض» كله في السلال الأميركية ؟ ألا تقول التجارب بأن رهان كذاك، هو رهان خاسر طال الوقت أم قصر؟ وإذا كان الرهان كذلك، ألن يترتب على الفعل أثمان باهظة سوف تدفعها الأجيال القادمة؟ ثم كيف سيتعاطى المحيط، وفي الذروة منه لبنان، الذي لن يكون بمنأى عن التداعيات، مع حلول هي أقرب لفعل: «زرع» الألغام في المنطقة بدلا من نزعها، إذ لطالما كان من المؤكد أن مصائر شعوب المنطقة مرتهنة ببعضها البعض .

كتكثيف لما سبق، يمكن القول أن النظام الدولي الراهن يمر بمرحلة مخاض كبرى ، وأن «ضابط الإيقاع» الأميركي لم يعد قادرا على كبح جماح كل «العازفين»، فمحاولات خروج هؤلاء عن «النوتة» أكثر من أن تحصى ، ولربما ستشهد العروض اللاحقة حالات «نشاز» تفوق سابقاتها، ولذا فإن أقراص «المسكنات» التي يوزعها هنا وهناك، هي نفسها قد تكون السبب في آلام مستعصية لاحقة.


الأكثر قراءة

دبابات زامير على أبواب بيروت؟