لعل من نافل القول إن «الصراع على سورية» عمره من عمر كيانها بالشكل الذي يعرف به الآن، وما بين القوسين كان عنوانا لعشرات الكتب، وجل كتابها من الغربيين الذين أبدوا اهتماما بذلك الصراع لسبب أو لآخر، لكن الأبرز بينهم اثنان : البريطاني باتريك سيل والهولندي نيكولاس فان دام، ومن المؤكد أن في الأمر الكثير مما يدعو إليه، إذ لطالما كان وقوع الجغرافيا على خط «الفالق» الجيوسياسي الممتد من الباكستان أقصى شرق الإقليم حتى المغرب العربي في أقصى غربه، كفيلا لقيامها بدور «المركز» في التحولات التي غالبا ما تتحدد عبرها التوازنات، فكيف والأمر إذا ما اعتد ذلك «الوقوع» بعاملين اثنين لا يكادان يقلا أهمية عن سابقهما؟، الأول تمثل بقرار الغرب إنشاء « مخفر « متقدم له سيصبح، منذ أيار 1948، «جارا» على الحدود الجنوبية للكيان، والثاني هو انضمام تركيا، «الجار» الشمالي، إلى حلف «الناتو» عام 1951، الأمر الذي وضع هذا الأخير على خطوط تماس مباشرة مع قوة هي الأعتى في العالم بكل ما يتركه الفعل من حمولات من الصعب على كيان بهذا الحجم امتصاص تبعاتها بسهولة.
تدولت الأزمة السورية، البادئة ربيع 2011، بعد استخدام روسيا لحق «الفيتو»، يوم 4 تشرين أول من هذا العام الأخير، ضد مشروع قرار غربي كان يريد استنساخ السيناريو الليبي البادئ بالقرار 1973 (آذار 2011)، ومذاك أضحت بطوابق ثلاث: داخلي - إقليمي - دولي، والمؤكد هو أن التوازنات التي كانت قائمة داخل كل «طابق»، وفيما بينها أيضا، كانت تميل إلى التعادل الأمر الذي يفسر حالة «الإستعصاء» التي دامت لنحو أربعة عشر عاما هي عمر الأزمة السورية، لكن في الغضون جهدت العديد من الدول العربية والإقليمية باتجاه «تحريك» المياه الراكدة من دون تحقيق نتائج تذكر لأسباب عديدة، ولربما كان الحراك التركي هو الأبرز من بينها حيث ستستطيع أنقرة، عبر تقاربها مع موسكو آب 2016، الذي جاء بعد توتر، إيجاد تلاقيات عدة كان من «ثمارها» الإعلان عن انطلاق مسار سيطلق عليه اسم «مسار أستانا»، الذي أضحت بعده «ناطقا رسميا» باسم المعارضة السورية وقتذاك، والفعل قابله انكفاءة عربية واضحة لعل من أسبابها أن «الكل» كان موقنا بلا جدوى «الحركة» ما لم تتوافر لها شروطها الموضوعية التي على رأسها حصولها على «الضوء الأخضر» من واشنطن، وعليه فقد كان كل ذلك «الكل»، مع تسجيل استثناء قطري، أمام حال من الذهول لحظة 8 كانون أول 2024.
كرست اللحظة الأخيرة لحال هي أقرب لـ«زلزال» أصاب التوازنات الإقليمية في عمقها، ومن الطبيعي، والحال هذه، أن يتداعى «الكل» لاحتواء تداعيات «الزلزال»، الذي نظرت إليه الإمارات والسعودية على أنه يمثل «تهديدا» مباشرا لدوربهما انطلاقا من معطيين اثنين، أولهما الخشية التي يتبناها الطرفان حيال صعود التيارات التي توصف عادة بـ«الإسلام السياسي»، وثانيهما تصنيف الحدث على أنه «انتصار» للمحور القطري التركي بكل ما يتركه الفعل من حمولات على ذلك الدور، وإذا ما كانت الرياض وأبو ظبي قد أيقنتا بأن من المستحيل، الآن، إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، كان القرار لديهما بوجوب القبول بـ«توازع الأدوار»، التي لا تعني بالتأكيد تقاسمها تماما، بل هي أقرب للـ«التشاركية» ذات «التخوم» المحددة والمتفق عليها، ولعل ما يستحق لفت النظر إليه إبان الحديث عن المحور القطري التركي هو أن البعض غالبا ما يقول أن «العربة» القطرية لا تتحرك إلا على «السلاسل» التركية، إلا أن المعطيات تشير إلى أن الموقف القطري، وعلى مدى يقرب من 14 عام، كان قد أثبت فعالية وصلابة مشهودين حيال الأزمة السورية، والدوحة كانت إحدى العواصم القليلة التي رفضت التطبيع مع نظام بشار الأسد، أما اندفاع حليفتها، أنقرة، في ذلك الإتجاه فذاك أمر كاف، لوحده، للقول بوجود «تباينات» وازنة بين الطرفين خصوصا عندما يتعلق الأمر بالخيارات الإستراتيجية.
الآن، إذا ما أردنا الغوص في خيار «توازع الأدوار» سابق الذكر، بغية رسم ما يشبه» انفوغرافيك» من شأنه تسليط الضوء على «المؤثرات» الإقليمية في المشهد السوري، فمن الممكن اعتبار تشكيلة الحكومة السورية، التي أعلنت يوم 29 آذار الماضي، وما تلاها، أو تزامن معها أو سبقها، من قرارات ومراسيم وتعيينات، بمثابة «حجر الزاوية» لعمل من هذا النوع، ففي تلك الحكومة سيطرت «هيئة تحرير الشام»، المدعومة قطريا وتركيا، على وزارات( الدفاع - الخارجية - الداخلية)، وثالوثها يمثل العمود الفقري لأي دولة، وعبره يمكن القول أنه جرت ترجمة «النفوذ الميداني» إلى «نفوذ سياسي - حكومي»، وهو أمر بالغ الأهمية، وكذا يشير تكليف كل من عبد السلام هيكل ومحمد صالح بحقيبتي الإتصالات والثقافة على التوالي، إلى نفوذ قطري انطلاقا من «الوشائج» التي تربط الإثنان بالدوحة منذ ما لا يقل عن عقد، وعلى أقل اعتبار يمكن القول أن ذينك التعيينين هما أشبه بـ«قنوات اتصال» تفضي إلى مسارب غرف صناعة القرار، أما وزارات الإعلام والسياحة فمن الممكن اعتباره «منطقة نفوذ» سعودية إماراتية بالرغم من التناقض الكبير القائم ما بين الرياض وأبو ظبي من جهة وبين «الأخوانيين» في الوزارة من جهة أخرى، والراجح هو أن الإماراتيين ارتأوا فتح فنوات تواصل مع «الجماعة» كمحاولة لتثقيل دوريهما أولا، ثم لمعادلة الكفة القطرية الراجحة ثانيا.
عسكريا وأمنيا، يمكن القول أن سيطرة أنقرة، والدوحة بشكل أقل، على «الجيش الوطني السوري» كانت بارزة منذ بداية تشكيله، ولذا فإن تعيين قياداته، مثل محمد الجاسم الذي عين قائدا للفرقة 25 و سيف بولاد الذي عين قائدا للفرقة 76 بحلب وفهيم عيسى الذين عين نائبا لوزير الدفاع، في الجيش السوري الجديد هو مؤشر على نفوذ تركي قطري واضح، واللافت هو أن ذلك النفوذ ما انفك يحاول التمدد كلما سنحت الظروف بذلك، والشاهد هو أن أنس خطاب، الذي جرى تعيينه أواخر شهر كانون أول الماضي كرئيس لـ«جهاز الإستخبارات» الذي جرى بـ«تزكية» إماراتية أكيدة، لم يلبث أن فقد منصبه ذاك، شهر أيار الماضي، بعد أحداث أمنية طالت القصر الجمهوري كما ذكرت تقارير غربية التي أضافت أن سببها هو الضغط من أجل إقالة الخطاب، وما جرى هو أن الضغط حقق مراميه لكن تعيين حسين سلامة كخلف له أتى دليلا قاطعا على صدقية تلك التقارير، فالرجل يحظى بعلاقة وثيقة مع الدوحة، وهو نجح في تخطي الكثير من «الإختبارات» التي زادت من موثوقية الأخيرة حياله.
في السياق ذاته يمكن القول أن الدور العسكري للرياض كان يقوم على دعم وإسناد «جيش الإسلام»، الذي أسسه زهران علوش ومقره دوما بغوطة دمشق، لكنها انكفأت عن تقديم أي إسناد لهذا الأخير منذ العام 2015، وهو عام افتراقها مع أنقرة بعد السيطرة على إدلب، بدليل أن عصام بويضاني، متزعم «جيش الإسلام» الراهن، كان قد اعتقل في الإمارات، 24 نيسان الفائت، ولم يرف للرياض جفن، بل ولم يرد على وسائل إعلامها إلا كخبر في شريطها الإخباري، في حين كان «الفيلق الخامس»، الذي تزعمه أحمد العودة بعد التسوية مع النظام السابق بوساطة روسية ومقره درعا، يقع تقليديا تحت دائرة النفوذ الإماراتي، وعلى الرغم من أن العودة خرج تماما، قبل نحو شهرين، من المشهد، إلا أن «جماعاته» التي اندمجت في الفرقة 40 التابعة لوزارة الدفاع لا تزال محسوبة على تلك الدائرة.
الجدير ذكره أن هذه التوازنات القائمة بين ذينك المحورين، السعودي - الإماراتي و التركي - القطري، هي لحظية، بمعنى أنها قابلة للتعديل والإنزياحات، لكن الكثير من المعطيات يقول، فيما لو حدثت هذي الأخيرة، فإن اتجاه السهم فيها سيشير انطلاقا من الأول نحو الثاني.
الأكثر قراءة
عاجل 24/7
-
23:52
المضادات الدفاعية الإيرانية تتصدى لأهداف في العاصمة طهران.
-
23:51
الرئيس الأميركي دونالد ترامب لفوكس نيوز: إيران تلقت ضربة أقسى بعشر مرات مما كانت تتوقع.
-
23:51
القناة 13 "الإسرائيلية": سلاح الجو الإسرائيلي يبدأ هجوما على مواقع إيرانية.
-
23:37
رويترز: مذكرة دبلوماسية ذكرت أن واشنطن لم تشارك في العملية الإسرائيلية ولم تقدم أي دعم، وترامب كان واضحا جدا بشأن رغبته في إحلال السلام في المنطقة لكنه في الوقت نفسه كان حازما في أن طهران لا يمكن السماح لها بالحصول على أسلحة نووية.
-
23:37
الحرس الثوري الإيراني: استهدفنا مراكز عسكرية وقواعد جوية "إسرائيلية" كانت منطلقا للعدوان الإجرامي على بلادنا، واستخدمنا منظومات ذكية ذات دقة عالية في عملية الوعد الصادق 3.
-
23:36
وكالة الأنباء السعودية: ولي العهد محمد بن سلمان والرئيس الأميركي دونالد ترامب بحثا في اتصال هاتفي التطورات في المنطقة بما في ذلك العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد إيران، وناقشا أهمية ضرورة ضبط النفس وخفض التصعيد وأهمية حل كافة الخلافات بالوسائل الدبلوماسية.
