في قرى الحافة الأمامية في جنوب لبنان، لم تبدأ الحرب في الثالث والعشرين من أيلول عام 2024 ، وإنما بدأت في الثامن من تشرين الأول عام 2023 ، أي في اليوم التالي لعملية طوفان الأقصى. ومنذ ذلك اليوم بدأ الأهالي بالنزوح من قُراهم الى قرى قضاء صور والنبطية، وبعضهم الى الضاحية الجنوبية لبيروت.
أهالي هذه القرى نزحوا مرتين: الأولى خلال حرب الإسناد، والثانية خلال عدوان الـ 66 يوما الذي شنّته "إسرائيل" على لبنان. وعندما عاد الناس الى قُراهم في الجنوب والبقاع والضاحية، بعد إعلان وقف إطلاق النار في السابع والعشرين من تشرين الثاني، عاد أهالي القرى الحدودية معهم بداية الى مكان نزوحهم الأول، باعتبار أن عودتهم الى بلداتهم كانت تتطلب الانتظار ستين يوما إضافيا، وعندما رفض العدو "الإسرائيلي" الانسحاب، أخذ الأهالي المهمة على عاتقهم بتحرير أرضهم، والعودة إليها بمشهد يُشبه تحرير عام 2000 ، رغم المخاطر والدمار الذي أحدثته آلة الحرب الصهيونية في قُراهم، التي تغيّرت معالمها بفعل القصف "الإسرائيلي"، لكن لم يتغيّر أهلها الذين عادوا الى أرضهم وبيوتهم ولو على أنقاضها.
هناك نماذج كثيرة يمكن الحديث عنها في أكثر من قرية حدودية يجمعها الدمار والتهجير والمعاناة، وكذلك ثبات وصمود أهلها باستمرارية التواصل مع أرضهم والإصرار على العودة إليها ولو بزيارات متقطعة، بفعل دمار بيوتهم وبسبب العدوانية الصهيونية المستمرة. هؤلاء بقيت المقاومة معهم والى جانبهم وبداخلهم، فهذه الروح هي التي ساعدتهم على النهوض من جديد.
ففي بلدة عيترون التي حررها أهلها في الثاني من شباط عام 2025 ، يقول رئيس البلدية سليم مراد إنه بمجرد العودة بدأ العمل من قِبل البلدية، بالتعاون مع أهالي البلدة على فتح الطرقات وإزالة الردميات، كما ساعدت شركة مراد بإصلاح التيار الكهربائي لإعادته تدريجيا، وأيضا تم العمل على عودة المياه وإصلاح المولدات وإنارة البلدة، وكل ذلك حصل بمساعدة المغتربين، وبدعم من مجلس الجنوب وفق ما يقول رئيس البلدية، فالجهد الذي يُبذل من أجل تأمين مقومات الحياة أدى الى إعادة 800 عائلة ،وبقيَ حوالى 400 عائلة نازحة بيوتهم مهدَّمة بشكل كلّي، لذا بنوا مصالح لهم ودخلوا بالدورة الاقتصادية بشكل كامل في المكان الذي نزحوا إليه، وسجّلوا أولادهم في المدارس، بحيث توزّع الأهالي بين صريفا ومحيطها، وصور ومحيطها، والوردانية ومحيطها، وغيرها من قرى الساحل.
يقول رئيس البلدية إن بلدة عيترون تعتمد على الزراعة، وتُعتبر الأولى في لبنان بزراعة التبغ ويعتاش منها ما يفوق 1200 عائلة، ويوجد ما يقارب 40 مزرعة أبقار و 10 مزارع دواجن، وأيضا هناك مجموعة من مربّي النحل يفوق عددهم الـ 50، وبفعل العدوان والأضرار التي نتجت منه في الأراضي الزراعية خلال الحرب وبعدها، باعتبار أن هناك جزءا من الأراضي الزراعية تتجاوز 2000 دونم مسيطرًا عليها ناريا من قبل الاحتلال، عدا نقطة جبل الباط التي تحتلها "إسرائيل"، كان الحل بمساعدة جهاد البناء والتعاون مع "الريجي" بزراعة مشاتل التبغ في صريفا ودردغيا، كما قدمت البلدية بالتعاون مع إحدى الجمعيات ما يزيد على 1200 شتلة زيتون.
القرية التي دمّرت "إسرائيل" فيها ما يفوق 1050 بيتًا بشكل كلّي، و 1600 بيت بشكل جزئي، بالإضافة الى الضرر الكبير الذي أحدثته في البيوت والمصالح والمياه والكهرباء والطرقات، عاد جزء كبير من أهلها بتكاتفهم وبمساعدة الاغتراب وبتعاون الجميع. بهذه الإرادة والصبر والصمود يستطيعون بناء مجتمع جديد يقول رئيس البلدية، فعيترون التي قدّمت 127 شهيدا بين مقاوم ومدني، وعيترون التي كان لها شرف المواجهة وخوض معارك واشتباكات مع العدو على حدودها، وعيترون التي أعادت أهلها بتكاتفهم، يمكن القول إنها قدّمت نموذجا يحتذى به بعودة السكان، ومحاولة العودة الى دورة الحياة رغم كل الظروف، ولاستكمال ما تم البدء به، ترفع البلدية شعار "إعادة التعافي" وإعادة عيترون أجمل مما كانت.
أما في طيرحرفا، التي يقول رئيس بلديتها ياسر قطايا، إن آلة الحرب "الإسرائيلية" أحدثت دمارا شاملا في البلدة، وحتى بعد تحريرها ووضع بيوت جاهزة فيها، فقامت "إسرائيل" بتدميرها أيضا، لكن رغم ذلك يتردد أهلها إليها باستمرار، لقضاء بعض الوقت فيها ولو على أنقاض بيوتهم. فمن أصل 400 عائلة هناك عائلتان قامتا بترميم منزليهما وعادتا للسكن فيهما، أما الباقي فما زالوا بمناطق النزوح، التي أغلبها في قرى قضاء صور وبعضها في الضاحية الجنوبية لبيروت.
من المعروف أن حزب الله وقف الى جانب الأهالي خلال الحرب وبعد إعلان وقف إطلاق النار، بدفع تعويضات لهم لإيوائهم، كما قامت البلدية بمساعدة أهلها النازحين وفق قدرتها المتواضعة، واتحاد البلديات قام بتوزيع إعاشات على العائلات المسجَّلة أسماؤهم، وتعمل البلدية الجديدة على القيام بإحصاء من أجل أن يستفيد كل أهل طيرحرفا، باعتبار أن غالبيتهم فقدوا أشغالهم بترك القرية، وكان هناك صعوبة في إيجاد بديل مؤقت، فمَن كان مرتاحا ماديا وجد بديلا، أما مَن ليس لديه رأس مال فبات عمله يوميا كحل يسنده الى حد ما في هذه المرحلة.
أما موضوع المدارس، فيقول رئيس البلدية إن هناك مسعى من أجل فتح مدرسة طيرحرفا بمدينة صور، أي نقل مكانها بالطلاب أنفسهم من أجل عدم إقفالها من قبل وزارة التربية بحُكم القانون اللبناني، الذي على ما يبدو لا يُراعي فكرة أن المدرسة مقفلة بسبب الحرب، ويجب أن تكون مستثناة من القانون ، وأن تُعيد فتح أبوابها بمجرد انتهاء العدوان "الإسرائيلي" وعودة الأهالي الى القرية.
إذاً، يمكن رؤية الجنوب كلّه وقرى الحافة الأمامية تحديداً بهذين النموذجين، ويُمكن رؤية النزوح والمعاناة والإرادة والثبات والصمود في صورة واحدة، في شعب واحد، في روح واحدة. فالتجذر في الأرض وتحدّي الظروف الصعبة والإصرار على العودة إليها، لا يمكن أن تجده في أي مكان في العالم، لذا يبقى الجنوب نموذجًا عجز العدو عن فك شيفرته، فرغم التضحيات يبقى أهله نقطة قوّة ، ويبقى الجنوب بكل ما فيه أصدق تعبير عن ثقافة الحياة.
يتم قراءة الآن
-
كيف تشلّ إيران "إسرائيل"؟
-
مواجهة بلا سقف بين إيران و«إسرائيل»... وواشنطن على حافة التدخّل! سفير غربي يحذر من عمل عسكري «اسرائيلي» في الجنوب حتى الأولي برّاك بعد لودريان: لا اعذار للتاخير
-
الذين يُريدون تغيير شكل ... الله
-
المنطقة على حافة الإنفجار... ولا تطمينات أميركيّة للبنان إجراءات أمنيّة وشلل سياسي... وتضرّر كبير للسياحة ملف السلاح الفلسطيني الى «ثلاجة» الإنتظار مُجدّداً!
الأكثر قراءة
عاجل 24/7
-
13:23
الحكومة الإيرانية : - هجوم سيبراني يستهدف بنكي "سپه" و"باسارغاد"
-
13:19
الحكومة الإيرانية: إضطراب الإنترنت ناتج عن عملياتنا لمواجهة الهجمات السيبرانية
-
13:19
الحكومة الإيرانية : هجوم سيبراني يستهدف بنكي "سپه" و"باسارغاد"
-
13:18
زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد يدعو الولايات المتحدة للانضمام إلى الحرب على إيران
-
13:06
وصول طائرات عسكرية أميركية إلى قبرص
-
13:06
الخارجية الإيرانية: نتعرض لهجوم غير قانوني من إسرائيل
