اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

لم يكن من المقدر لحدث من عيار التفجير الذي طال كنيسة «مار الياس» بدمشق صباح يوم الأحد الماضي أن تخبو نيرانه التي خلفها بسرعة، لكن تدافع الأحداث، والتي شابها الكثير من الغموض، كان عاملا مساعدا في إذكاء تلك النيران التي يصح القول أن علوها راح يتصاعد بمرور الوقت، ولعل أبرز العوامل التي ساعدت في هذا الفعل الأخير هو التناقض الحاصل ما بين الرواية التي قدمتها الحكومة السورية، وبين تلك التي قدمها تنظيم «أنصار السنة»، الذي قال في بيان له، الإثنين، إن «منفذ الهجوم هو محمد زين العابدين (ولقبه أبي عثمان)»، قبيل أن يضيف البيان بأن ذلك جاء «ردا على استفزاز النصارى للدعوة وأهل الملة»، والجدير ذكره في هذا السياق هو أن حي الدويلعة كان قد شهد، شهر أيار المنصرم، حادثة مرور سيارة كانت تبث شعارات «دعوية»، عبر مكبرات صوت مثبتة عليها، ولربما تشير الفقرة الأخيرة، سابقة الذكر من البيان، إلى أن الفعل لم يلق القبول في الأوساط التي كانت تستهدفها تلك الشعارات.

كانت الرواية الرسمية التي قدمتها السلطات عبر بيان وزارة الداخلية التابعة لها تقول بإقدام «انتحاري يتبع لتنظيم داعش الإرهابي على الدخول إلى كنيسة مار الياس في حي الدويلعة بالعاصمة دمشق، حيث أطلق النار ثم قام بتفجير نفسه بواسطة سترة ناسفة»، وقد تلا ذلك تصريحات عدة لنور الدين البابا، المتحدث باسم وزارة الداخلية، من خلاله مؤتمر صحفي كان قد عقده يوم الثلاثاء، كانت في مجملها إشكالية، من نوع تأكيده إن «تنظيم داعش هو المسؤول عن تفجير الكنيسة»، وإن تنظيم «أنصار السنة هو تنظيم وهمي»، مبررا ذلك بأن «تنظيم داعش يستخدم خلايا وتنظيمات أخرى لتنفيذ عملياته»، قبيل أن يدخل في سردية كانت إشكالية بدرجة أكبر مما سبقها، حين قال إن «المسلحين اللذين قدما إلى دمشق جاءا من مخيم الهول»، في إشارة قد تكون غير مباشرة لمسؤولية «قوات سورية الديمقراطية - قسد» عن ذلك الفعل نظرا لوقوع ذاك المخيم تحت سيطرتها، حيث لم يذكر المتحدث الطريقة التي خرج بها الإثنان من المخيم، هل خرجا بإجراءات رسمية؟ أم عبر عملية تهريب محكمة؟، وكانت” قسد “قد أصدرت مسبقا بيانا نفت فيه” أي علاقة لها بتفجير كنيسة مار الياس»، ليضيف البيان بأن ما يجري تداوله حول تورطها في ذلك التفجير هو «أخبار كاذبة وملفقة»، وفي اليوم التالي لتصريح هذا الأخير، أعلنت القوات الأمنية عن تنفيذها «لمداهمات ضد خلايا التنظيم في حرستا و كفر بطنا»، وأضافت أن تلك المداهمات «أسفرت عن مقتل اثنين واعتقال آخرين»، الأمر الذي أثار ردود أفعال عديدة كان أبرزها خروج مقطع مصور، على حساب معروف بمناهضته لـ «هيئة تحرير الشام»، لشخص قال أنه شقيق محمود خنيفس، وهو أحد الذين تم اعتقالهم في المداهمات سابقة الذكر كما يبدو، ومن خلاله أكد هذا الأخير أن «أخيه لا علاقة له بما نسب إليه»، وأنه «نزل من إدلب إلى دمشق قبل يومين من الحادثة وبرفقته ابنه الصغير»، وأضاف أن ما يجري يذكر «بنظام بشار الأسد وقناة الدنيا (يقصد قناة دنيا الفضائية زمن حكم هذا الأخير) وتمثيلياتها».

أثار تنظيم «أنصار السنة» الكثير من الإهتمام منذ بيانه المنشور 9 نيسان المنصرم، الذي اعتبر مجددا لمنهج التنظيم وراسما لأهدافه وتحالفاته، وفيه أكد على أنه «من أهل السنة على منهج السلف»، وأضاف أنه يقر بـ «كفر الروافض(الشيعة) والنصيريين( العلويين) والدروز»، وكفر «من حكم بغير ما أنزل الله، ومن والاهم وأيدهم ونصرهم»، ولربما كانت هذه الفقرة الأخيرة، التي تشمل بالتأكيد السلطة القائمة في دمشق، هي ما يفسر مواقف هذي الأخيرة التي مضت نحو إنكار وجود التنظيم على أرض الواقع في محاولة لمنع، أو تأجيل، الصدام معه، خصوصا أن الأخير كان قد قال في بيان لاحق أنه «يحافظ على بقية من سياسة»، وأن هذه تفرضها الضرورة حيث «لا يمكن قتال الأعداء جميعا دفعة واحدة»، وأن الأولوية الآن هي «للنيل من مجرمي الطوائف»، وهذا يشير بوضوح إلى أن التنظيم لا يضع الصدام مع السلطة على رأس أولوياته، بل يرى وجوب تأجيل ذلك الصدام، والراجح هو أن السلطة أيضا ترى أن ذلك في مصلحتها الآن، لكن معالجة خاطئة لأزمة ما قد تنتج واحدة أعتى منها، فكيف والأمر إذا ما كانت الأزمة ذات علاقة مباشرة بقضية السلم الأهلي الذي لن تقوم لسورية قائمة من دونه.

واقع الأمر هو أن «أنصار السنة» تنظيم ليس وهمي، بل ولا يصح اعتباره إحدى تفرعات «داعش»، صحيح أن لا علاقة «تنظيمية» ما بين الإثنين، بمعنى أن لا وجود لبيعة أحدهما للآخر، لكن الثابت هو أن ثمة تقاطعات عقائدية عديدة قائمة بين الطرفين، إذ لطالما ارتأى الأول، «أنصار السنة»، في أحد بياناته، أن من يقاتل «داعش» بسبب «تطبيقه لأحكام الشريعة الإسلامية فهو مرتد، وواجب قتاله»، ولا يكاد يمر أسبوع حتى تظهر إحدى «بصماته»، التي كان آخرها، قبل استهدف الكنيسة، في 14 حزبران الجاري عندما أصدر التنظيم بيانا تبنى فيه اغتيال الشابين حمادة درويش وهود هاشم، اللذين ينتميان للطائفة المرشدية، وفي بيان لاحق هدد التنظيم أتباع تلك الطائفة قائلا «لا مكان لكم بيننا، وإننا مستعدون لإنفاذ الحق بكل حزم»، وإذا ما كانت النظرة التي تشكلت عن ذلك التنظيم في بداياته تقول بأنه جماعة متطرفة وصغيرة العدد، إلا أن حالها اليوم لا يبدو كذلك، خصوصا أن زعيمها، أبو عائشة الشامي، كان قد قال في مقابلة مع صحيفة لبنانية، قبل نحو شهر، إن عدد مقاتليه بات «يقارب الألف مقاتل»، ولربما كان بعضهم من اللبنانيين بدليل الإشارة المتكررة إلى طرابلس في أكثر من بيان أو تصريح، وهذا لوحده قد يشكل تحديا من النوع «العابر للحدود»، ولا يمكن معالجته في ضفة دون أخرى.

تشير الكثير من المعطيات، وأبرزها مما ورد في المؤتمر الصحفي للمتحدث باسم وزارة الداخلية، إلى أن الحكومة السورية تعمد إلى معالجة الأزمة عن طريق «المسكنات»، ومحاولة الإستثمار في تفاصيلها، وكمثال على ذلك : الربط الذي ذهب إليه هذا الأخير ما بين «داعش» و«فلول النظام»، ومن الناحية الواقعية فإن هذا الربط يبدو مستحيلا، إذ كيف يمكن لـ«داعش»، هو أو «أنصار السنة»، الذي كانت إحدى افتراقاته الكبرى مع «هيئة تحرير الشام» تقوم على «ليونة « تعامل هذي الأخيرة مع «الفلول»، أن يقيم تحالفا مع هؤلاء ؟ ثم كيف يمكن لذاك الرابط أن يوجد و«فتاوى القتل» التي يصدرها شرعيوا ذينك التنظمين أكثر من أن تعد وأن تحصى بحق العلويين الذين كثيرا ما يجري تصويرهم على أنهم «القاعدة الصلبة» لـ«فلول النظام».

في الإعلام، كتب شعبان عبود المحرر في «تلفزيون سوريا»، «لم يكن غبيا ذاك الذي يقف وراء تفجير الكنيسة، بل كان يعرف ما يريد: تفجير المجتمع السوري كله»، وأضاف مشيرا إلى «الروائح المقيتة للطائفية التي راحت تخرج من أجهزة الهواتف المحمولة»، وإذا ما كان ذلك الخطاب فيه الكثير مما يستوجبه، لكن السؤال هو: لماذا لم تذهب وزارة الداخلية إلى ذكر اسم منفذ العملية وبشكل صريح؟ أما كان يمكن لهكذا فعل أن «يحبس» جزءا مهما من تلك «الروائح» عن الأنوف؟.


الأكثر قراءة

تفجير المزة... الغموض يزيد من تعقيدات المشهد السوري