اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

د. حسن فرحات

ابتعدوا عن الحسابات الضيّقة والفردية، وكونوا أوصياء على نُبل أخلاقكم، وأخلاق نبيّ الرحمة محمد، الذي زكّاه الله، ورسالة المحبة التي جاء بها عيسى بن مريم عليه السلام، وعلى نهج الأولين من الأنبياء، والأوصياء، والشهداء، والمضحين، الذين جعلوا رفعة الأمة ونصرتها وقوتها سدّا منيعا في وجه أحلام التقسيم والفتن المتنقّلة والدفينة.

لكنّ كثيرين اليوم يغفلون عن رسائل السماء، التي أنزلها الله على أمةٍ كانت غارقة في الجاهلية. أمة تحوّلت بنورها إلى كيان متقدّم، حضاري، له شأن عظيم في محطات متعددة من التاريخ. ورغم التباين في تقييم مراحل النضج والازدهار والانحدار، إلا أن أثرها ظل حاضرا، وما ترتّب على ذلك من تبعات لا يزال يُلقي بظلاله على بقاعٍ جغرافية عزيزة على شعوبها.

لقد دخل على المشهد عناصر غريبة، بلسانٍ غير عربي، لا تدرك كثيرا من تعقيدات الواقع ولا عمق النسيج الاجتماعي المتجذر في هذه الأرض. وقد لا يكون ذلك ذنبهم، لكن تصدّرهم للمشهد، وانسلاخهم عن أوطانهم بفعل عوامل إقصائية أو عقائدية أو اقتصادية، جعلهم أبعد ما يكون عن جوهر الأمة وقضيتها المركزية.

وليس هناك إنسان حرّ، عربيّا كان أم مسلما أم مسيحيا، يسكن هذا الشرق، إلا ويتألّم حين يرى القتل والدمار والتهجير القسري، ويعصره الأسى من كثرة المظالم التي تفتك بنا جميعا. فنحن لسنا بمنأى عن تعقيدات هذا المشهد، الذي وبكل صدق لا يفاجئني، إذ إن العدالة الاجتماعية في بلادنا لم ترتقِ بعدُ إلى مستوى يُنصف الإنسان.

أما التطرّف الديني والسلوكي، فلا يمثل سماحة رسالة السلام، بل يعكس جهلا أعمى، لا يفرّق بين الأبيض والأسود، لأنه لم يقرأ صفحات التاريخ بإنصاف، ولم يتأملها بعقل نزيه، متجرّد من أهواء العاطفة والانتقام.

للأسف، المواطن في مجتمعاتنا يُستدرج بسهولة إلى فرضيات قاتمة تغذّي النفوس وتُلهب العواطف، وترفع منسوب الأدرينالين، جنبا إلى جنب مع ارتفاع وتيرة التطرّف الفكري والعقائدي، فتنتج عن ذلك وحوشٌ في هيئة بشر، تفرح حين "تنتصر" على إخوتها في الإنسانية، إن لم يكن في العقيدة.

فكيف لربّ هذا الكون أن يكون في صفّنا ويدفع عنّا البلاء، ونحن في سلوكياتنا وتصرفاتنا أبعد ما نكون عن ذلك الإنسان الذي أوحى إليه ربّه، وجعله نبيّ الرحمة؟

وأين نحن من ذلك الرسول الذي أنقذه الله من الموت ورفعه إلى السماء؟

ومن ذاك الذي شقّ الله له البحر؟

ومن إبراهيم، أبينا الذي فُدِي ابنه إسماعيل بذِبْحٍ عظيم؟

أين نحن من أولئك الأنبياء والرسل الذين كانوا قدوة في أخلاقهم، وضبط انفعالاتهم، وتحكيم ضمائرهم قبل إصدار الأحكام في كل مشهدية قاتمة معقّدة لا نعرف كيف بدأت، ولا كيف استعر أوارها، ولا كيف ستهدأ؟ بل كيف لمثل هذه النيران أن تتوقف في بقعة جغرافية عزيزة على أهلها، دون أن تنتقل إلى أخرى، حتى وإن لم تكن متصلة بها جغرافيا أو ظرفيا؟ فعندما تمرض النفوس وتغضب العقول، يصبح كل شيء ممكنا، وتصيب النار القريب والبعيد.

يبدو أن الرجاء في حلول قريبة أو بعيدة أصبح أبعد، ما دامت الأدوات لم تتغير، والعقول التي تُدير المشهد هي ذاتها، وما دامت الأغلبية تكثر من الكلام المعسول، دون أن تصغي لهواجس المكوّنات الاجتماعية والثقافية.

ولا أحبّذ استخدام مفردات مثل أقليات" و"إثنيات"، فالمجتمعات تزدهر حين تكون متنوعة، بغضّ النظر عن العقيدة أو الدين، لأن الإيمان في جوهره، يقوم على صون كرامة الإنسان، ذلك الإنسان الذي يسكن بقعة جغرافية تُسمّى "وطنًا".

الأوطان هي الملاذ الأخير للشعوب، أما" وطن الله" فهو دينُه السماوي، الدينُ السمح، الذي نلجأ إليه حين نفقد الأمن والأمان.

أنا لا أحب الكتابة في السياسة ولا في الدين، لأنني لست متمرّسا، وهناك من هم أعلم مني وأقدر. لكنّ واجبي الأخلاقي يدفعني للكلمة، حين أرى ما لا يُحتمل السكوت عليه.

عندما تكون المعركة ضدّ عدوّ خارجي يحتلّ الأوطان، ويهدم المدن، ويشوّه الهوية، ويهجّر السكان، ويقتل الأبرياء، نقول: هذا واجبنا. واجبنا تجاه الإنسان، تجاه الأرض، وتجاه السماء.

أما حين يتحوّل القتال إلى صراعٍ عشوائيّ بين أبناء الأمة، فذلك عبث وجهلٌ مركّب وانعدام وعي، بحجم هذه الأفعال وعواقبها على المجتمعات والشعوب والأوطان.

في زمنٍ تاهت فيه البوصلة، وتقدّم فيه العبث على الوعي، نحتاج إلى صوتٍ يعيدنا إلى الأصل إلى الإنسان، إلى الوطن، إلى الرحمة. هذا المقال ليس خطابا سياسيا ولا دينيا، بل تأمّل في ما يحدث حين تبكي الأرض من أفعال أبنائها.

عناوين الوجع... في كلمات:

- النداء الأخلاقي الأول

- عندما يشتعل أوار الفتن

- العدو من الداخل

- الذاكرة النبوية... أين نحن منها؟

- حين يفقد الإنسان إنسانيته

- الوطن هو المأوى الأخير


أستاذ مساعد في كلية الطب – ماونت سيناي، نيويورك

طبيب مختص في الأمراض الباطنية وطب الطوارئ 

الأكثر قراءة

ما خفي من كلام براك... فضحته "عشاواته"