لا تزال تبعات دعوة زعيم ومؤسس حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان (PKK)، لحلّ الحزب تتردّد ليس في تركيا فحسب، بل أيضاً في الإقليم والعالم على نطاقٍ أوسع. وهي خطوة ستعيد تشكيل الجغرافيا السياسية للمنطقة، بعدما أصبح من الواضح بشكلٍ متزايد، أنّ لا تركيا ولا حزب العمال الكردستاني قادرَين على تحقيق نصر عسكري مطلق. كما أنّ انحسار الصراع النشط داخل تركيا، قد أعاد رسم هذا التصوّر لدى الرأي العام.
شكلت دعوة أوجلان إلى حل الحزب والقاء السلاح حدثا مهما، وهي جاءت بعد مبادرته التي كان قد أطلقها لإلقاء السلاح في 27 فبراير الماضي. ولكن نداءه الجديد هذا، جاء متزامنا مع التحولات الاقليمية الكبرى في "الشرق الأوسط"، العدوان الصهيوني على غزة ولبنان وسوريا وإيران... وسقوط الدولة السورية بنظامها البعثي السابق.
قال أوجلان في رسالة "فيديو" من سجنه في جزيرة "إمرالي" ببحر مرمرة جنوب إسطنبول (09.07.2025): "نعلن انتهاء كفاحنا المسلح بشكلٍ طوعي". وتابع: "انتقالنا للمرحلة القانونية والسياسة الديمقراطية، هو انتصار تاريخي وليس خسارة"، وأنه "يقع على عاتق الجميع "مسؤولية الوفاء بمتطلباتها". في إشارة إلى الحكومة التركية.
ويُعدّ وقف إطلاق النار من جانب حزب العمال الكردستاني خطوة أولى مُهمّة، لكن استمراره على المدى الطويل يتطلب إضفاء طابع مؤسّسي عليه، وهو ما لا يمكن أن توفّره تسويةٌ تكتيكية بحتة أو مستعجلة. مع ذلك، لا بدّ من الاعتراف بأنّه لا يمكن بناء أيّ عملية سلام على مطالب غير قابلة للمساومة، أو على خارطة طريق مثالية خالية من أي توتّرات. يتطلّب السلام المستدام حلولاً عمليّة وخطوات تدريجية، وقبولاً بأنّ المفاوضات ستتضمّن انتكاسات ومصالح متنافسة وضرورة تقديم تنازلات متبادلة.
ورحب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بإعلان "العمال الكردستاني" حل نفسه وإلقاء السلاح (11.07.2025)، مؤكدا أهمية هذه الخطوة، "لتعزيز أمن البلاد وسلام المنطقة، والأخوة الأبدية بين أبناء الشعب التركي". وأضاف "مع خروج الإرهاب والعنف من المعادلة، ستُفتح أبواب مرحلة جديدة بكل المجالات، في مقدمتها تعزيز القدرات الديموقراطية للعمل السياسي".
أهمية دعوة أوجلان أنها تفتح الأبواب أمام صياغة جديدة لـ "الهوية الكردية" من جهة، وحل للمسألة الكردية في تركيا من جهة أخرى، على أساس تكريس مفهوم المواطنة التي تجمع نسيج المجتمع التركي من أكراد وعرب وعلويين وغيرهم. وهذا يؤكد قراءة ما ذهب إليه الزعيم الكردي في كتابه "الأمة الديموقراطية" الذي يشير إلى أن "الهوية الكردية هي هويَّة مفتوحة تتفاعل مع الهويات المتنوعة داخل المجتمع التركي بلا وجل، وهي في حالة تعلّم واستكشاف أبدي، لا ترى للمعرفة مديات نهائية، ولا تراها قارة ساكنة، بل ترى المعرفة أفقا مضيئا لا نهائيا، يستمد فيه الإنسان قدرته على تطوير ذاته فردا ومجتمعا، لإثراء هويته وإنضاجها".
هكذا يسعى أوجلان إلى حماية "جمهوره ومؤيديه" من تسارع التحولات في الإقليم، وخطر الوجود "الإسرائيلي" في المنطقة، وإن كانت مواكبة سعيه لا تزال قلقة ومضطربة وهشة، قبل أن تتبلور العناصر القانونية لدمج أكراد تركيا في وحدة الحياة مع باقي عناصر المجتمع، إذ لا خلاص لـ "الهوية الكردية" إلا أن تخرج من شرنقتها، كيلا يمحو وجودها واقع دولي وإقليمي يتغير فيه كل شيء.
لا شك أن دعوة أوجلان لا يمكن اعتبارها معزولة أو محلّية بحتة، بل تمثّل فرصة جوهريّة قد تُعيد تشكيل المشهد السياسي بأسره، وصولاً إلى مكانة الفاعلين الأكراد في المستقبل، ما يرسم معالم المرحلة المقبلة من ديناميّات القوى الإقليمية.
وهذا التحول عند "العمال الكردستاني" من العسكرة إلى الهوية الثقافية، يفرض على كرد تركيا في وعيهم النقدي، التمييز بين محطات الإخفاق ومحطات التفوق، وعليهم أن يدركوا أن الذاكرةَ الأيديولوجية الموجَّهة لا تحرص على اكتشاف الحقيقة، قدر حرصها على توجيه الذاكرة لبناء روايةِ هويَّة جماعةٍ عن ماضيها، بحيث يجري توظيف الروايةِ بالكيفية التي تفرضها الأيديولوجيا. فالجمهور الكردي التركي (وفي المنطقة) يتصرَّفُ بذاكرةِ الألمِ مع أنظمة مستبدة، وهو يعيدُ تشكيلَها بإعادةُ خلقِ الذاكرةِ، فبدلا من كونِها منبعا للألمِ والإحباطِ ، تصيرُ منبعا للثقةِ والأملِ.
تدرك أنقرة أن من شأن تسوية "المسألة الكردية" أن تعزّز نفوذ تركيا الديبلوماسي، لا سيّما إزاء الجهات الأوروبية والأميركية المنتقدة لسياساتها ضد الأكراد في الداخل وفي الدول المجاورة. كما وأنّ عمليةً مستدامة قد تخفّف التوتّرات مع العراق وسوريا، حيث تسبّبت العمليات التركية ضد المجموعات الكردية باحتكاكات، ما قد يُعزّز التعاون الأمني والاقتصادي مع بغداد بعدما هيمنت على دمشق.
ولكن من جهة اخرى، على الدولة التركية عدم التنكر لما حدث من مظالم واضطهادات للكرد (وغيرهم)، والتنكيل بهم في جنوب شرق تركيا، وأن لا تتيح لهم من جديد "عبودية أخرى"، كما يرى إتين دي لابويسيه (مؤسس الفلسفة السياسية الحديثة في فرنسا) "لتدوسهم تحت حوافر القوانين واللوائح، وتمعن في إذلالهم بشبكة الاقتصاد والتعليم والخدمات الرديئة".
وبهذا المعنى على الحكومة التركية ممثلة بالبرلمان، أن تقيم ورش عمل لتفعيل وحدة الحياة داخل المجتمع التركي من جديد، في سياق هويَّة مفتوحة تتحلى شخصية "الطوراني" باحترام المختلف، وقبول التعددية الدينية والعقائدية والثقافيَّة واللغوية والإثنية في المجتمع، والقدرة على العيش في فضاء الاختلاف والتنوع، بلا شعور بالاصطفاء والتفوق على غيره، مهما كان دينه ومعتقده وإثنيته وثقافته ولغته. وفي سياق تفاعلها تتحقّق الهويَّة بكيفية تتعلم فيها من جماعات ديناميكية خلّاقة، استطاعت أن تراكم منجزات معرفية وعلمية وتكنولوجية وثقافيَّة وحضارية. وعليه، يجب أن تبحث الهويَّة التركية عن المشتركات، وما يمكن أن تتمثله ويدخل في نسيجها المجتمعي. وعلى الدولة التركية أن تدرك أن العقلانية النقدية، يمكن أن تضع حدا لتطرف الجماعات، لكنها لن تفلح في اجتثاثها ما لم تتحقق المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات، ويكشف النقاب عن العنصرية الطورانية الظاهرة والمستترة، وفضح رموزها وتعبيراتها أينما كانت، في اللغة والدين والثقافة، والعمل على مداواة جروحها العميقة في حياة المواطن التركي.
ورغم أهمية الخطوات التشريعية التي سيتم تحقيقها في البرلمان التركي في تسهيل هذا الانتقال، فإنّ وجود خارطة طريق واضحة تتضمّن التعديلات القانونية والسياسية والاجتماعية، يُعدّ ضروريا. ولكن وفقاً لتصريحات الجهات الحكومية التركية، لا تتضمّن الرؤية الحالية أيا من هذه الإصلاحات الرئيسية. ويبقى السؤال مطروحا: كيف يمكن حلّ حزب العمال الكردستاني من دون إحداث تغيّرات جذرية؟
يتم قراءة الآن
-
رسالة أمنية حازمة شمالا... وغياب للمرجعية السنية! الورقة الأميركية مذكرة استسلام ولا مهل زمنية جورج عبدالله يعود اليوم يعد 41 عاماً...
-
ما خفي من كلام براك... فضحته "عشاواته"
-
إستدعاء الوزراء شهوداً أمام القاضي بو نصار... كرة فضيحة «BetArabia» تتدحرج
-
جعجع يخرج من "سور معراب" الى كليمنصو "لغسل القلوب" مع جنبلاط
الأكثر قراءة
عاجل 24/7
-
13:02
الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان: الحكومة عازمة على توطيد العلاقات مع دول الجوار.
-
12:33
رئيس الحكومة نواف سلام: بغياب زياد الرحباني يفقد لبنان فنانا مبدعا استثنائيا وصوتا حرا ظل وفيا لقيم العدالة والكرامة
-
12:19
استهداف سيّارة على طريق صريفا الطويري في جنوب لبنان
-
11:59
استهداف سيّارة على طريق صريفا الطويري في جنوب لبنان
-
11:13
وفاة الفنان اللبناني الكبير زياد الرحباني
-
10:57
بزشكيان: علينا أن نستعد دومًا للدفاع عن بلدنا لكن تبقى الدبلوماسية أداة أهم من أي وسيلة أخرى
