هناك فنون تخاطب العقل، وأخرى تلامس الروح، لكن قليلة هي الفنون التي تحاكي القلب بهذا الكمّ من الرّقّة والانضباط والعاطفة النقيّة. الباليه هو لغة الجسد حين يعجز اللسان عن الوصف، وهو قصيدة تُروى بخفّة الخطوات. ففي كلّ حركة تكمن قصّة، وفي كلّ دوران همسة عشق، وفي ٱمتداد الأذرع يتجلّى الشّغف كأنّه صلاة صامتة لا تحتاج إلى كلماتٍ كي تُحَسّ، بل تُشعَر بالعظام والنفس. الباليه ليس مجرّد رقص، هو ٱندماج الأسلوب بالجمال، والانضباط بالإحساس، والتقاليد بالحرية، وإنّه الفن الذي يجعلنا نؤمن أنّ الجمال لا يُصرَخ بل يُهمَس، وأنّ العاطفة لا تحتاج إلى صوت كي تلامس القلوب.
يُعَدّ الباليه أحد أرقى أشكال الفنون الأدائية التي عرفها الإنسان حيث يجتمع فيه التعبير الجسدي بالدّقّة الموسيقية، والتقنية العالية بالإحساس العميق. نشأ الباليه في البلاط الإيطالي خلال عصر النهضة في القرن الخامس عشر في مدن مثل فلورنسا ثمّ ٱنتقل إلى فرنسا في القرن السادس عشر بفضل كاثرين دي ميديتشي زوجة الملك هنري الثاني التي كانت راعية للفنون. وفي عهد الملك لويس الرابع عشر المُلقَّب بملك الشمس، شَهدَ الباليه تطوّرًا ملحوظًا إذ أسّس عام 1661 "الأكاديمية الملكيّة للرقص" في باريس ما جعل فرنسا مركزًا عالميًّا لهذا الفن.
ليعود مركز الباليه وينتقل في القرن التاسع عشر إلى روسيا، حيث ظهر ما يُعرَف "بالباليه الرومانسي" ثم "الباليه الكلاسيكي" مُجسَّد بأعمال شهيرة مثل "بحيرة البجع" و"كسّارة البندق" و"الجميلة النائمة" من تأليف تشايكوفسكي. فأصبحت روسيا من أبرز الدول في تخريج راقصي الباليه العالميين من خلال مدارس مثل "البولشوي" في موسكو و"مارينسكي" في سانت بطرسبرغ.
وفي عالم كَثُرت فيه اللغات واختلفت فيه الثقافات، يبقى هذا الفن اللغة الوحيدة التي يفهمها الجميع. فهي لا تحتاج لتفسيرٍ ما أو ترجمة معيّنة، فالجسد حين يروي حكايةً بصدق تصل إلى قلبِ كل إنسان مهما ٱختلفت عاداته وتقاليده وجنسيته. ففي الباليه الصمت سيّد الموقف، يتحوّل إلى لغة تتخطّى الكلام ويؤكّد أنّ الجمال والفن الحقيقي لا يعرف حدوداً ويتجاوز الجغرافيا والسياسة والاختلاف ليصل إلى وجدان كل فرد.
ففي الحديث عن الجمال، يمكننا القول أنّ الباليه يخطف الإنسان إلى حالةٍ من السحر والذهول حيث يصبح الفرد مأخوذًا بكلّ حواسه جرّاء ما يحدث أمام عينيه. وتحرّك حالة الانخطاف هذه مشاعر لا يمكن وصفها، فمشاهدة فنّ يدمج الموسيقى والرقص والتمثيل في آنٍ واحد واختلاط هذه الفنون مع الاحساس تجعل دمعةً ناعمةً تتساقط من مقلة الإنسان. أو من الممكن أن تتحرّك مشاعر النّوستالجيا في داخل الفرد، أو يمكن أن يشعر هذا الأخير بحبّ عميقٍ في داخله يجعله يبقى في حالة صمت لبضع ساعات.
كثيرون هم الأفراد الذين شاهدوا "بحيرة البجع" وباتوا عاجزين عن التعبير وذلك جرّاء الأحاسيس الكثيرة التي شعروا بها. من حب إلى حزن إلى فرح بالإضافة إلى التشويق الذي يجعل الإنسان غير قادرعلى صرف نظره ولو للحظةٍ واحدةٍ. وهناك من يشاهدون الباليه من أجل الشعور بالراحة والسعادة وآخرون من أجل نسيان بعض الهموم الحياتية، فالفن ينقل الإنسان لمكانٍ آخر.
في كلّ فن امتيازات ومهارات معينة يكتسبها الفرد، أما الباليه فهو الجمال الذي يعلّم الفرد مهارات عدّة ويكشف له قيمًا عميقة. يعلّمنا هذا الفن الانضباط، لا بٱعتباره قيدًا، بل كوسيلة لتحرير الروح. فعندما يصبح الإنسان منضبطًا تتحوّل جميع العوائق أمامه إلى أمور سهلة يمكن حلّها. ويُعتبر الانضباط من أهمّ الصفات التي يجب على الإنسان أن يتحلّى بها.
وفي تسليط الضوء على المهارات والقيم التي نكتسبها من هذا الفن، باتت الحاجة ملحّة إلى الحديث عن الصبر كقيمة نكتسبها من الباليه تجعلنا نتقبّل الألم كجزء من الرحلة نحو الكمال، وعلى أنّ الجمال لا يولد من العشوائية بل من التّكرار الهادئ، والعمل الصامت، والإصرار اليومي. فما من رحلةٍ يحقّقها الانسان دون المرور بعوائق والشعور بالألم، فالصبر أساس النجاح. بالإضافة إلى تعليمنا أنّ الٳتّساق بين الجسد والنفس هو شكل من أشكال الصفاء الداخلي، وأنّ السيطرة على العضلات تبدأ من السيطرة على الذات.
أخيرًا وليس آخرًا الباليه هو الفن الذي يهذّب الروح وينقّي النفس والجسد. هو التعبير الذي يذكّرنا أن ليست كل المشاعر بحاجة إلى صوت. وأنّ هناك قوّة بالحركة الصامتة. إنه فنّ لا يربّي فقط أجسادًا مرنة، بل أرواحًا متمكّنة تعرف كيف تقول الكثير من دون أن تنطق بشيء
يتم قراءة الآن
-
رسالة أمنية حازمة شمالا... وغياب للمرجعية السنية! الورقة الأميركية مذكرة استسلام ولا مهل زمنية جورج عبدالله يعود اليوم يعد 41 عاماً...
-
ما خفي من كلام براك... فضحته "عشاواته"
-
إستدعاء الوزراء شهوداً أمام القاضي بو نصار... كرة فضيحة «BetArabia» تتدحرج
-
جعجع يخرج من "سور معراب" الى كليمنصو "لغسل القلوب" مع جنبلاط
الأكثر قراءة
عاجل 24/7
-
13:02
الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان: الحكومة عازمة على توطيد العلاقات مع دول الجوار.
-
12:33
رئيس الحكومة نواف سلام: بغياب زياد الرحباني يفقد لبنان فنانا مبدعا استثنائيا وصوتا حرا ظل وفيا لقيم العدالة والكرامة
-
12:19
استهداف سيّارة على طريق صريفا الطويري في جنوب لبنان
-
11:59
استهداف سيّارة على طريق صريفا الطويري في جنوب لبنان
-
11:13
وفاة الفنان اللبناني الكبير زياد الرحباني
-
10:57
بزشكيان: علينا أن نستعد دومًا للدفاع عن بلدنا لكن تبقى الدبلوماسية أداة أهم من أي وسيلة أخرى
