اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

"لم أتميّز الشِّعر في رواية كونديرا "الحياة هي في مكان آخَر" في أيّ من تصرّفات بطلها "الشاعر" رغم أنّ عنوان الرواية بحدّ ذاته قصيدة، ولعلّنا، إذا بنينا على العنوان، يمكن أن نفهم أنّ الشِّعر هو في مكان آخر وأنّه مثل الحياة لا يمكن أن نجده في هذا العالّم". بمثل هذه الأفكار حول الشعر والحياة يختم عباس بيضون روايته "حائط خامس" (دار نوفل 2022) على لسان شخصية "أنطوان" الشاعر الذي يعلن اعترافه بنفسه واعتراف الناس به بوصفه شاعرًا بعد نشر قصيدتين له في جريدة السفير بعد انتهاء الحرب الأهلية.

أمّا لماذا بدأت بهذا المقطع للحديث عن رواية هي في ظاهرها رواية عن الحرب وتحدث في الحرب وتتحرّك الشخصيات فيها قبيل الحرب وخلالها وبعدها بقليل، فهو أمر قصدته بعدما فكّرت كثيرًا بسؤال رافقني منذ بدأت بالقراءة، ماذا أكتب عن رواية استمتعت بقراءتها ولكن هنالك خيط مفقود يجعلني غير مقتنع باكتمالها؟

الشيخ عبد الرحمن، رجل الدين الشيعي المختلف عن رجال الدين، المنفتح على كل الأفكار والمتبنّي الكثير منها على الرغم من تعارضها مع الدينيّ السائد. غريس ابنة القسّ، جارة عبد الرحمن بالصدفة في قرية ككثير من قرى لبنان أهلها من ينتمون إلى طوائف مختلفة، ولكن يصدف أن طائفة عدد أفرادها يفوق الأخرى. أنطوان الشاب الذي بدأ منفتحًا على كل جديد، غير عابئ بتعدد علاقاتها، والذي مرّ على صفوف الكتائب بعد مقتل أخيه في الحرب، وخرج منها في نهاية الرواية ليعلن عدم جدوى الحرب وما رافقها ومن مات بسببها. وغيرها من الشخصيات المساعِدة، كلّها دارت في فلكٍ واحد، في فلك الحائط الذي نبنيه بأيدينا ونعيش كامل عمرنا محاولين هدمه، الحائط الخامس، في العلاقات وفي الأفكار وفي الأيديولوجيا وفي الطائفية وفي الفن والأدب والشعر...

عباس بيضون الشاعر لم يستطع التخفّي تحت راية الرواية، يحاول جاهدًا ولكنه يفشل، فتجده يصوغ أفكارًا بلغة الشعر، ويتحدّث عن الشعر ويدافع عنه ويطالب به، وتكون إحدى الشخصيات تنجو من الحرب وأفكار الثأر عن طريق الشعر، ويصبح الشيخ المتديّن شاعرًا كباقي شعرائنا الذي سيّرهم الحبّ على حساب كلّ شيء، فنجده يلاحق "صرحًا من خيال" فيهوي عليه في النهاية ويرضى بالواقع الذي يفرضه الحائط الخامس الذي بُنِي، أو فلنقل أخذ يزداد قوّة وارتفاعًا من كلّ جانبٍ، بزنود كلّ فئة أخذت طرفًا منه متراسًا لها.

لم يعبأ بيضون بتصوير الحرب بخرابها ومتاريسها والموت والجحيم والشقوق التي ترافقها في الأمكنة والأزمنة، بل ركّز على حركة شخصياتها، ومنها عبرت الحرب إلينا، وعبرت الشخصيات من خلالها، وتجاوزت كلّ الحدود، فكما تجاوز الشيخ عبد الرحمن وغريس كل الحدود في علاقتهما، تجاوزت غريس المتاريس حين زارته في القرية التي هُجّرت وأهلها "المسيحيون" عنها، ومن ثمّ تجاوز عبد الرحمن الحدود بمحاولة زيارتها ولقائها في إحدى مناطق بيروت المسيحية، وهنا لا يأتي التجاوز بالظاهر فقط، مكانيًّا وجسديًّا، بل يتعدّاه إلى تجاوزَين أعمق بكثير، فتجاوز غريس تحدث معه العلاقة الجنسية بين ابنة القسّ والشيخ الشيعيّ، وتجاوز عبد الرحمن كان سيجبره على خلع عمامته وردائه، وهنا عمق التجاوز الذي يعطي الرواية فرادتها، فنجد بيضون يقول، لو أنّ هذه التجاوزات كثرت وسيطرت، لما استمرت الحرب أعوامًا، وما كنّا لا نزال نعيش خلف جوانب "حائطها الخامس" حتى اليوم.

لغة النصّ متينة والسرد محبوك من شاعر كبير، أراد للعلاقات بين الشباب في مرحلة ما قبل الحرب وخلالها أن تكون علاقات عادية وطبيعية وواقعية إلى أقصى حدودها، وعلى الرغم من أننا قد نجدها مأخذًا من المآخذ التي يمكن أن نضيء عليها، وهي مسألة كثرة العلاقات الجنسية المذكورة من ضمن الحوارات أو التي تُروى بتفاصيلها، لأنها تحتلّ مساحة قد يجدها القارئ، الذي ينتظر من مثقّف كعباس بيضون، مبالغًا فيها، إلّا أنك بعدما تكمل، تجد أنه قد يكون المقصد منها التركيز على أنّ الناس في تلك المرحلة، ليسوا كما نتصوّرهم اليوم، فهم لم يكونوا أناسًا يبغضون بعضهم وينتظرون حادثة البوسطة والوجود الفلسطيني ليتقاتلوا ويقتل بعضهم بعضًا، ولم يكونوا كلّهم ينتمون إلى أحزاب وتيارات وتجمعات طائفية مذهبية أو مناطقية، فصحيح أن بعضهم كانوا كذلك، ولكن الأكثرية كانوا يعيشون حياةً أبسط من ذلك، وها هي فئة منهم تشغلها العلاقات والجنس.

أما المأخذ الوحيد الحقيقيّ، فهو المبالغة في تحميل أنطوان، ذلك الشاعر المبتدئ، على الرغم من ثقافته وقراءاته، ذلك الكمّ الهائل من الطروحات والأفكار والفلسفات حول الشعر وماهيته ودوره، خصوصًا في الصفحات الثلاث أو الأربع الأخيرة من الرواية، لأنه واضح أنه موقف عباس بيضون من الشعر ودفاعه الخاصّ عنه في زمن يفقد قيمته وحضوره، فكان من الأجدى أن يعبّر عن ذلك في مقالٍ منفصل، أو بشكل متقطّع وخلال حوارات تبرّر طرح مثل تلك الأفكار.

الأكثر قراءة

ايجابيات نيويورك لا تلغي الخوف من حسابات نتانياهو الخاطئة ميقاتي يعود من العراق قلقا… وعقبتان امام حل «اليوم التالي»؟