اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

مدعاة لفخرنا أن نعطي العالم كاتباً عابراً للثقافات، وعابراً للأزمنة. ولكن، ونحن وسط هذا الركام، هل اهتز أمين معلوف يوماً لآلامنا؟ لنتوقف عند الشاعر اليوناني قسطنطين كافافيس "آه... كم أعشق ذاك الغبار الذي علق بحذائي. الغبار الذي يلاحق دقات قلبي لأعود من حيث أتيت". لكن صاحب "صخرة طانيوس" قال "أنا لم أرحل الى أي مكان ، البلد هو الذي رحل". لم نلاحظ أنه بقي بيننا. رحل ورحل البلد. وطننا لم يعد أكثر من حقيبة...

حين نقش على سيفه الخاص بأعضاء الأكاديمية الفرنسية صورة ماريان ـ رمز الجمهورية الفرنسية ـ نقش ايضاً صورة الأرزة، ليقول لـ"عين القبو" (التي وصفها لنا عمه الدكتور الرائع يوسف معلوف) "لقد أصبحت نصف لبناني ونصف فرنسي". ما لبث النصف اللبناني أن ذاب في النصف الفرنسي. لا نتصور أنه نسي حيث كانت خطواته الأولى وخفقات قلبه الأولى.

ثمة حقبة ماتت حين كان يفترض بالأدب أن يكون ايديولوجياً. الفيلسوف الفرنسي (الشيوعي) لوي التوسير قال لمجلة LIRE " ": "لا أدري اذا كانت الايديولوجيا تصنع مني الذئب أم النورس". متى لم تكن الايديولوجيا العصا التي يحملها أصحاب الأرواح الميتة؟

غابرييل غارسيا ماركيز لم يكن ايديولوجياً أبداً. ولكن حين وضع "مائة عام من العزلة" قال: "لقد كتبت هذه الرواية من أجل وجه أبي المحطم". في كولومبيا كل وجوه الآباء كانت محطمة. أما بابلو نيرود فكتب "كيف لي ألاً أشارك زهرة الأقحوان بكاءها"؟

هل بكى، هل صرخ أمين معلوف من أجلنا ؟ قال "الوطن الذي نضطر للعيش فيه مطأطئي الرؤوس لا تعطيه شيئاً، فالنبل يستدعي العظمة. اللامبالاة تستدعي اللامبالاة، والازدراء يستدعي الازدراء. ذلك هو ميثاق الأحرار. ولا اعتراف بميثاق آخر". ترانا كيف قبلنا في البلد الذي وصفه لامارتين بـ"أريكة القمر، "وكاد يصفه بـ"أريكة الله"، أن تقطع رؤوسنا (لا أن نطأطئ فقط) مثلما تقطع رؤوس الخراف؟

قرأت كل كتبه. بهرني في "الهويات القاتلة". غريب أن نكون في زمن الهويات المركبة والأسواق المركبة، وحتى الأديان المركبة، ثم نكتشف أن هويتنا هي التي تقتلنا. لسنا قتلى الهوية فقط. قتلى الحياة أيضاً...

امتلأنا بالضجيج حين انتخب لبناني (أو من أصل لبناني) أميناً عاماً للأكاديمية، كنتاج لعبقرية ريشليو، وزير لويس الثالث عشر. هذه فرنسا التي بأكثر من وجه ، أن تكون بلد ألبير كامو، بذلك الوعي الفذ بالانسان، وفي الوقت نفسه بلد اريك زمور بتلك الحمولة التوراتية الرثة؟

لماذا لم يلتفت أمين معلوف ولو لهنيهة الى عيون أطفالنا (العيون الضائعة)؟ اختار للاقامة تلك الجزيرة النائية كي لا "يرى" سوى الصوت ألذي يأتي من داخله. ما يقوله الهواء هناك يقوله تشايكوفسكي في سنفونية "بحيرة البجع". لعله تأثر بقول لوي آراغون "الكنابة أن تراقص غجرية على أرصفة الريح". ولكم لمن ترك كاتبنا أرصفة الوطن ؟ هنا رقصة الفالس يؤديها الحفاة...

أتعلمون لماذا أنتخبت قبله هيلين كارير ـ دانكوس، المتخصصة في الشؤون السوفياتية (الروسية سابقاً ولاحقاً) ؟ "اللوموند ديبلوماتيك" قالت عنها "لقد قدمت للعالم حقائق مذهلة عن وضع وعن مصير الأمبراطورية السوفياتية، ما لم تصل اليه كل أجهزة الاستخبارات الغربية"، حتى أن الاستراتيجيات كانت تصاغ استناداً الى مؤلفاتها.

تلك اللحظة الآسرة التي ذهب فيها أمين معلوف الى سمرقند، حاملاً معه زجاجة نبيذ الى عمر الخيام (من قال ان النبيذ لا يحيي الموتى؟) ، عاد بظلال سحرية وبأيام سحرية، لكأنه عبر أزمنة كثيرة وجدراناً كثيرة، لكي يصل الى رباعيات تدخل الى أقاصي الهذيان في قلب شاعر هكذا رأى أن الدنيا هي الدنيا. ولنترك ما بعد الدنيا لمن يحترف الاقامة على تخوم الغيب. ربما على تخوم العدم.

ما نعيشه الآن كلبنانيين، يحتاج الى الكتابة بالجمر أو بالسكين. أين أمين معلوف الذي يتصدر الآن المشهد الفرنكوفوني (وهو في حالة النزع الأخير) ؟ اننا، أيها الساحر البعيد، في بلد يحتضر. هل سقط الجمر أم سقط القلم من يدكَ... ؟!

الأكثر قراءة

زلزال قضائي: توقيف رياض سلامة... ماذا في المعلومات ولماذا الآن؟ الضغط الدولي غير كافٍ في احتواء إجرام نتنياهو تعزيزات الى الضفة الغربية... وخشية من تكرار سيناريو غزة