اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


من الآراء العجيبة ـ أو العجائبية ـ التي تضج بها الشاشات، بما هبّ ودبّ، أن توقيت الاستقلال كان خاطئاً (22 تشرين الثاني 1943). كان يفترض بقاء فرنسا لحقبة أخرى كي تعلّمنا أصول الحكم، كوننا أخفقنا في بناء دولة المؤسسات، وأقمنا مكانها دولة الطرابيش، أو دولة الطوائف، أو دولة الباريزيانا حيث لا فارق بين رجال الدولة و "أبو عبد البيروتي".

الانتداب الفرنسي أطلق دستور "دولة لبنان الكبير" في 23 أيار 1926، وقد حددت فيه هيكلية السلطة، وكذلك آليات عملها، لتتركز القرارات الكبرى في شخص المفوض السامي حتى يوم الاستقلال، واندلاع صراع الظل بين بريطانيا وفرنسا حول من يحكم لبنان. الحقبة التي امتدت 17 عاماً عرفت خمسة رؤساء للجمهورية (شارل دباس، حبيب باشا السعد، اميل ادة، ايوب ثابت، الفرد نقاش)، وكانوا ملمّين بأحكام الدستور، كذلك بقواعد السلطة.

لكن المفوضين السامين، في ظل الجمهورية الثالثة التي انتهت عام 1940، أي في بدايات الحرب العالمية الثانية، كانوا يتحكمون برؤوس الرؤساء، مع التأثر بتقلبات السياسات الفرنسية، وبمزاجية المفوضين. لا شيء كان سيتغير، ولو امتد الانتداب لمئة عام أخرى.

فرنسا، وطوال تلك المدة، كانت عالقة بين أسنان الأميركيين والبريطانيين الذين كانوا يحفرون تحتها لاقتلاعها من الشرق الأوسط. ولنتذكر كيف أن الرئيس فرنكلين روزفلت رفض مشاركة الجنرال شارل ديغول (وكان يكرهه) في مؤتمر يالطا عام 1945.

ربما كانت التركيبة الطائفية التي وصفها البعض بالمصطنعة هي المسؤولة عن التعثر، والتبعثر، الداخلي الذي يأخذ أحياناً أشكالاً حادة، وتهدد بسقوط، أو بتفكك، الجمهورية في منطقة تحكم بالتقاليد القبلية، وكذلك بفتاوى فقهاء العصر الحجري. ولكن هل كانت فرنسا معنية بتصنيع رجال دولة، هي التي كانت تعاني من تعقيدات الوضع الدولي، بظهور ذلك النوع من الايديولوجيات التي تقلب المفاهيم الفلسفية، والتاريخية، للدول وللمجتمعات، راساً على عقب (الشيوعية، النازية، الفاشية)...

ألا تكفي ثمانية عقود من الاستقلال لانتاج رجال دولة قادرين على انتشال لبنان من جدلية الأزمات والتسويات. بالتالي من ترسبات القرن التاسع عشر، وحيث الاقامة في سراويل القناصل، لنصل الآن، وبعد تلك الليالي الدموية (ليالي جهنم) الى الانتداب الأميركي. ولكن متى لم تكن أميركا في قلب المعادلة اللبنانية، ومع اعتبار ذلك الراي القائل ان أميركا هي وحدها التي تنقذنا من الهيستيريا التوراتية في اسرائيل، كما لو أن الدولة العبرية ليست بالوديعة، أو بالصنيعة، الأميركية في المنطقة.

الأن، نحن أمام اتفاق لوقف القتال. دونالد ترامب الذي يعود الى البيت الأبيض في 20 كانون الثاني يرى أن الاتفاق الأمني المدخل الى الاتفاق السياسي كشرط لارساء سلام مستدام، وهو يتفادى، حتى اللحظة، الاشارة، ولو من البعيد، الى "الدولة الفلسطينية"، كون القضية الفلسطينية هي محور الصراع مثلما هي محور السلام.

لبنان قد يكون الضحية الكبرى لذلك الصراع الذي كان المدخل لأكثر من قوة اقليمية لتحقيق أحلامها الجيوسياسية أو أحلامها الجيوتاريخية. من هنا نلاحظ دقة، وخطورة، ما ورد في لائحة الضمانات الأميركية حول تقييد النفوذ الايراني في لبنان، وان كان واضحاً أن الحرب الأخيرة، وحيث بدا اللبنانيون والفلسطينيون وحدهم في الميدان، لا بد أن تنتج رؤية مختلفة في صياغة السياسات كما في صياغة الاستراتيجيات.

بنيامين نتنياهو، اللاعب القديم على الشاشات، كما في التعرجات السياسية، لم يدع مناسبة الا وأشار فيها الى ايران كعامل مدمر للأمن الاقليمي، وللأمن الدولي، وهذا ما يتبناه، كلياً، جو بايدن كما دونالد ترامب. ولكن كم يبدو زعيم الليكود بشخصية دونكيشوت، وهو يبعث بالتهديدات الى ايران التي هي "قضية أميركية" أكثر منها "قضية اسرائيلية"، بسبب موقعها الجيوستراتيجي في الصراع حول قيادة الكرة الأرضية. هنا التنين الاسيوي الضارب في أعماق التاريخ والنسر الأميركي الذي قال رونالد ريغان انه يحلق فوق التاريخ.

الايرانيون الذين يعانون من الحصار القاتل، ويتوقعون ما هو أشد هولاً، في ظل التقاطع بين الجنون الأميركي والجنون الاسرائيلي، يتقنون اللعب الديبلوماسي، وكذلك اللعب الاستراتيجي. الآن ليس وقت التكشيرة الايديولوجية وانما وقت البراغماتية التي تبحث عن صفقة ما. أي صفقة تلك؟ الشرق الأوسط أمام حقبة عجائبية. لا تتوقعوا الانفجار. توقعوا أي شيء آخر. 

الأكثر قراءة

استفزازت «اسرائيل» في الجنوب هدفها مدة اطول من 60 يوماً مصدر ديبلوماسي فرنسي: نتنياهو مصاب بالدوار السياسي ولا عودة للحرب في لبنان وصول مُوفدي اميركا وفرنسا في لجنة مراقبة وقف اطاق النار