اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


 

كان عام 1969، قبل 56 عاما، يوم ذاع خبر تفوّق ابن بلدة الدوير الجنوبية، رمّال حسن رمّال، في الشهادة الرسمية في قسم البكالوريا وحيازته معدّل 19.5/20. كان هذا الحدث نقطة انطلاق لمسيرة نجاح لا تُنسى، حيث لم تفِ وزارة التربية والتعليم آنذاك، بوعدها بإعطائه منحة لاستكمال دراسته الجامعية. بينما تقاعست الدولة، كانت روح المبادرة من مشجعي العلم ومحبي الخير قد نشطت، فبادروا إلى جمع التبرعات للتكفّل بدراسة رمّال في فرنسا. كانت تلك هي البداية لرحلة علمية غير عادية، حيث أصبح رمّال بعد 15 عامًا، أحد أبرز علماء الفيزياء في عصره وأصغر عالم في جيله.

تلك الحكاية لم تكن مجرد قصة نجاح فردية، بل كانت أيضًا حجر الزاوية لانطلاق جمعية التخصص والتوجيه العلمي، التي تأسست في العام نفسه، 1969، كإحدى المبادرات التي انطلقت لمساعدة الطلاب المتفوقين. إذ قرر مؤسسو الجمعية تكرار تجربة جمع تبرعات لدعم الطلاب المتفوقين في لبنان، وتأسيس مؤسسة تعنى بتقديم المنح الدراسية. شعار الجمعية، الذي يرافقها منذ تأسيسها، هو "المنحة للطالب الأكثر تفوقًا والأشدّ حاجة".

منحة راشيل كوري

عام 2003، قدمت الجمعية أربع منح في الدراسات العليا باسم الناشطة الأميركية راشيل كوري التي استشهدت عند محاولتها إيقاف جرافة عسكرية إسرائيلية كانت تهدم مباني مدنية في مدينة رفح في قطاع غزّة. وشُكلت لجنة ضمت الوزراء السابقين ميشال اده وعبد الرحيم مراد وغازي العريضي وعضو المجلس الدستوري محمد المجذوب ورئيس الجامعة اللبنانية السابق ابراهيم قبيسي وناشر جريدة "السفير" طلال سلمان ورئيس الجمعية جميل ابراهيم ونائب رئيسها علي اسماعيل، عملت على اختيار اربعة طلاب لنيل منح في الدراسات العليا على أن تكون القضية الفلسطينية محور الأطروحات التي يعدّونها. كذلك خصصت الجمعية عام 2005 عشر جوائز للإبداع الفني تحت عنوان "راشيل كوري شهيدة الإنسانية في فلسطين" مُنحت للفائزين في مباراة للرسم بين طلاب معهد الفنون في الجامعة اللبنانية.

ما هدف الجمعية؟

في بداية تأسيس الجمعية، كان الهدف هو مساعدة الطلاب المتفوقين في لبنان للوصول إلى أعلى المستويات الأكاديمية وتوفير فرص تعليمية متميزة لهم في الخارج. في السنوات العشرين الأولى، كان غالبية المستفيدين من منح الجمعية هم من الطلاب المسلمين الشيعة، ولكن مع مرور الزمن، وسعت الجمعية نطاق نشاطها ليشمل جميع الطوائف والمناطق اللبنانية دون تمييز.

وكان هذا التوجه انعكاسًا حقيقيًا لفلسفة الجمعية القائمة على تعزيز العلم والعدالة الاجتماعية، حيث تم دعم الآلاف من الطلاب المتفوقين في تخصصات متعددة مثل الهندسة، والصيدلة، والطب، والإدارة، والدراسات العليا، وساهمت الجمعية في تزويدهم بالمعرفة التي ساعدتهم على تحقيق النجاح في حياتهم المهنية.

في عام 1974، وبفضل جهود الجمعية العميقة والمستمرة في خدمة العلم والتعليم، تم منحها وسام الأرز الوطني من رتبة ضابط تقديرًا لعطاياها وإنجازاتها. كما صنّفت الجمعية بالمرسوم رقم 4857/88 بتاريخ 30 أيار 1988 "مؤسسة ذات منفعة عامة"، ما يعكس مصداقيتها في مجال العمل الاجتماعي والعلمي.

المنح الدراسية... رؤية مستقبلية واهتمام بالغ بالتخصصات الحديثة

منذ تأسيسها، كانت الجمعية تهتم بتقديم المنح الدراسية في تخصصات تتمشى مع احتياجات السوق المحلي والدولي. وفقًا لما ذكره رئيس الجمعية، أحمد إسماعيل، في مقابلة مع صحيفة "الديار"، فإن الجمعية تضع سياسة سنوية تحدد فيها أولوياتها وفقًا لاحتياجات سوق العمل في القطاعين العام والخاص في لبنان والوطن العربي.

وفي السنوات الأخيرة، ركّزت الجمعية بشكل خاص على الاختصاصات التكنولوجية والنفطية وكل ما يتعلق بالذكاء الاصطناعي، باعتبارها مجالات واعدة تمثل المستقبل في ظل التطور التكنولوجي المتسارع. مضيفا": قد بلغ عدد المستفيدين من منح الجمعية منذ تأسيسها أكثر من 4200 طالب وطالبة، تخرج معظمهم في أفضل الجامعات في لبنان وفرنسا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا وبلجيكا وسويسرا، مما يعكس النجاح الكبير الذي حققته الجمعية في تحقيق أهدافها التعليمية.

مؤسسو الجمعية... رجال المبادرة والعطاء

تأسست الجمعية على يد مجموعة من الشخصيات البارزة التي آمنت بفكرة دعم الشباب اللبناني المتفوق. من أبرز مؤسسي الجمعية: رئيس مجلس النواب الأستاذ نبيه بري، جميل إبراهيم، بشر جابر، علي إسماعيل، إحسان شرارة، زيد الأمين، علي حجازي، حاتم صباح، إبراهيم حلاوي، عباس نحلة، خضر منصور، أسامة جابر، وحسن الحاج. هؤلاء الأفراد الذين كانوا من أوائل الداعمين لفكرة الجمعية، وضعوا نصب أعينهم مصلحة الطلاب الذين يحتاجون إلى فرصة لتحقيق أحلامهم الأكاديمية.

وبفضل جهود هؤلاء المؤسسين، استمرت الجمعية في تحقيق النجاح في تقديم منحها وتوسيع نطاق عملها على مدار أكثر من خمسين عامًا.

الأنشطة الخيرية... دعم المجتمع اللبناني

في هذا الخصوص أشار اسماعيل الى ان جمعية التخصص والتوجيه العلمي لا تقتصر على تقديم المنح الدراسية فحسب، بل إنها امتدت إلى مجالات اجتماعية أخرى، من خلال إنشاء خمس مؤسسات خيرية تسهم في تحسين حياة الفئات الاجتماعية المختلفة في لبنان. هذه المؤسسات تمثل جزءًا من فلسفة الجمعية في دعم المجتمع اللبناني بشكل عام، وهي تشمل:

1. مؤسسة سنابل لرعاية اليتيم: تأسست عام 1984 بهدف توفير رعاية اجتماعية متكاملة للأيتام في لبنان، بما يتجاوز الرعاية التقليدية. تسعى المؤسسة إلى توفير الدعم النفسي والاجتماعي للأيتام، مع التأكيد على إبقائهم داخل أسرهم وعدم إدخالهم إلى دور الأيتام. هذا المشروع يسعى إلى ضمان استقرار الأيتام في بيئات آمنة وسليمة.

فالمؤسسة تعمل على مبادئ إنسانية سامية، حيث تعتبر أن العناية باليتيم لا يجب أن تقتصر فقط على توفير الحاجات المادية، بل يجب أن تشمل أيضًا رعاية صحية وتعليمية وعاطفية تساعد في بناء شخصية الطفل اليتيم.

2. مؤسسة رعاية المسنّين: تأسست عام 1995 لتقديم رعاية للمسنين في لبنان، حيث تشتمل خدماتها على الرعاية الصحية والنفسية والاجتماعية. تعتبر هذه المؤسسة كنموذج للدار العصرية التي تجمع بين الرعاية الجيدة والاحترام الكامل لكرامة المسنين.

فالمؤسسة تقدم للمرضى المسنين برامج متكاملة تشمل الزيارات الدورية للأطباء، والعلاج الطبيعي، بالإضافة إلى الأنشطة الاجتماعية والرياضية التي تحسن من الحالة النفسية للمسنين. كما تحرص المؤسسة على تكامل الجوانب النفسية مع الرعاية الصحية لضمان حياة كريمة للمسنين.

3. مؤسسة طموح للتنمية الاجتماعية: تأسست عام 2010 وتهدف هذه المؤسسة إلى دعم المجتمع اللبناني من خلال مشاريع اجتماعية متنوعة، بما في ذلك تنظيم الأنشطة الثقافية مثل المسرحيات والسحور الرمضاني. كما كانت مؤسسة طموح في طليعة المؤسسات التي وقفت إلى جانب النازحين اللبنانيين جراء الحرب، حيث قامت بتوزيع الوجبات الغذائية والمواد الأساسية بشكل يومي، إضافةً إلى تقديم الرعاية الصحية.

فلقد تميزت المؤسسة بتقديم المساعدات الطارئة خلال الأزمات، حيث قامت بتوفير مستلزمات الإغاثة من أدوية ومواد غذائية للعائلات النازحة. وكانت تعتبر مرجعية رئيسية في تسهيل الوصول إلى المساعدات الأساسية، حتى في أصعب الظروف.

4. نادي الخريجين: تأسس عام 1986 ويُعدّ النادي ملتقى للطلاب الذين استفادوا من منح الجمعية، وهو يسعى إلى تعزيز روح التضامن بين الخريجين ومساعدة الأجيال الجديدة من الطلاب في تطوير مسيرتهم المهنية والعلمية.

فهذا النادي يقدم مجموعة من الخدمات المهنية، حيث ينظم ورش عمل، دورات تدريبية، وفعاليات اجتماعية تساهم في تطوير مهارات الخريجين وتوسيع شبكة علاقاتهم المهنية.

5. المنبر الثقافي: تأسس عام 2001 ويُعدّ المنبر الثقافي أحد أوجه النشاطات الثقافية للجمعية، حيث يشمل مجموعة من الفعاليات التي تهدف إلى تعزيز الحوار بين مختلف الأطياف اللبنانية. من خلال المحاضرات، والأمسيات الشعرية، والمعارض، يُعتبر المنبر مكانًا لتبادل الأفكار والنقاشات بين المثقفين والفنانين والمجتمع اللبناني.

فالمنبر الثقافي يستضيف كبار المفكرين والفنانين في لبنان والمنطقة، ويعتبر منصة أساسية للفنون بأنواعها، من المسرح والسينما إلى الفنون التشكيلية والموسيقى. كما يعمل على دعم المشاريع الفنية التي تسهم في تعزيز الثقافة الوطنية في لبنان.

دور الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان في دعم الجمعية

كان الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان، وزير التسامح الإماراتي، من أبرز الداعمين لجمعية التخصص والتوجيه العلمي. خلال السنوات العصيبة التي مرّ بها لبنان، كان الشيخ نهيان إلى جانب الجمعية بكل ما يملك من دعم مالي ومعنوي. وحرصًا منه على دعم الطلاب المتفوقين، قررت الجمعية تسمية دورة المنح للعام 2023-2024 باسم "دورة سمو الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان" تقديرًا لما قدّمه ويقدّمه للجمعية من دعم لا محدود.

كما تحدث رئيس الجمعية لـ "الديار" عن العديد من جوانب عمل الجمعية، خاصة فيما يتعلق بتطوير البرامج التعليمية والتوسع في دعم الفئات الاجتماعية.  كما قال اسماعيل: "اننا في الجمعية، نحن نركز على مساعدة الطلاب المتفوقين من مختلف المناطق والطوائف اللبنانية. نضع في اعتبارنا دائمًا أن الهدف ليس فقط توفير المنحة، بل تمكين الطلاب من تحقيق أهدافهم وتفوقهم العلمي. نحن نعمل بشكل مستمر على تحسين آليات عملنا والتأكد من أن المنح الدراسية التي نقدمها تلبي احتياجات سوق العمل المتطور". مضيفاً: "رغم التحديات، مثل الأزمة الاقتصادية والسياسية في لبنان، فإن إيماننا برسالتنا ودورنا في النهوض بالجيل المقبل يدفعنا الى الاستمرار في عملنا. نضع دائمًا مصلحة الشباب اللبناني في قلب أولوياتنا، ومن خلال ذلك نساعد في بناء مستقبل لبنان". أما بالنسبة للتحديات، فقال اسماعيل: "لقد كان لدينا العديد من التحديات، لكن كلما واجهتنا صعوبة، زادت قوتنا وإصرارنا على المضي قدماً في تنفيذ رسالتنا. الجمعية ليست مجرد مؤسسة تقدم المنح، بل هي رؤية مستقبلية لبناء جيل من القادة والمبدعين الذين سيقودون لبنان إلى آفاق جديدة."

إن "جمعية التخصص والتوجيه العلمي" ليست مجرد جمعية خيرية تقدم منحًا دراسية، بل هي قصة نجاح وعطاء تمتد جذورها في تاريخ لبنان الحديث. من خلال مؤسساتها الخيرية المتنوعة، ورؤيتها المستقبلية، تستمر الجمعية في رسم ملامح المستقبل العلمي والاجتماعي للبنان، مؤكدةً أن العلم والتفوق هما السبيل الأكيد للنهوض بالمجتمع وتجاوز التحديات التي يواجهها.

الأكثر قراءة

سلام متمسك بصلاحياته: لست «ليبان بوست»... عقبات امام التأليف؟ التعيينات الأمنية على نار حامية... هل تبدأ المداورة من المراكز الهامة؟ ماكرون لفريقه: مؤتمر لإعادة الاعمار في بيروت بحضور دولي