ألقى البطريرك الماروني الكردينال مار بشارة بطرس الراعي في افتتاح السنة القضائية، من الصرح البطريركي في بكركي، كلمة جاء فيها:
المحكمة: خدمة العدالة والمحبة في الحقيقة
أصحاب السيادة، والقضاة والموظفون القضائيون والمحامون، والإخوة والأخوات،
يُسعدني أن أرحب بكم، وأبادركم التهاني والتمنيات بالأعياد الميلادية، الميلاد ورأس السنة والدنح، متمنيًا ان تكون لكم مواسم خير وبركات ونِعَم، وأشكر حضرة الخوراسقف وهيب الخواجه على الكلمة اللطيفة والغنية بمعانيها التي تلاها باسمكم.
1. رسالة المحكمة الكنسية
وصف قداسة البابا فرنسيس رسالة المحكمة الكنسية بأنها "خدمة العدالة والمحبة في الحقيقة" (خطابه لطلاب الروتا الروحانية في 23 تشرين الثاني 2024).
هذه الثلاث عدالة ومحبة وحقيقة وحدة لا تتجزأ. فبإهمال احداها تفقد الأخريات أصالتها. في الواقع لنا القدوة في يسوع المسيح الذي هو الحقيقة والعدالة والرحمة. المحبة في الحقيقة قوة خارقة تدفع بالأشخاص الى الإلتزام بشجاعة وسخاء في حقل العدالة والسلام. انها قوة تنبع من الله الذي هو المحبة الأبدية والحقيقة المطلقة. فالمسيح شاهد بحياته على الأرض، وبخاصة بموته وقيامته، للمحبة في الحقيقة التي هي القوة الأساسية للإنماء الحقيقي لكل شخص وللبشرية جمعاء.
بالنسبة الى المحاكم، يجب تعميق العلاقات بين العدالة والمحبة والحقيقة. البعض يعارض بين العدالة والمحبة، كأن الواحدة تقصي الأخرى. والبعض يعتبر ان المحبة الراعوية قد تسّهل اي خطوة تجاه إعلان بطلان الرباط الزوجي من أجل مساعدة الأشخاص الموجودين في وضع زوجي غير شرعي. والحقيقة نفسها قد يُنظر اليها من منظار أداة، فتكون مناسبة في كل حالة الى المقتضيات المختلفة. ان توزيع العدالة في محاكمنا هو جوهريًا عمل عدالة، التي هي فضيلة قوامها الإرادة الدائمة والثابتة لإعطاء الله والقريب ما هو واجب لهما. الحق القانوني يُقدر بأقل من قيمته، وكأنه مجرّد اداة تقنية في خدمة اي مصلحة شخصية حتى غير مبنيّة على الحقيقة. المطلوب اعتبار الحق القانوني في علاقته الجوهرية بالعدالة، علمًا ان في الكنيسة للعمل القضائي "غاية خلاص النفوس"، وان الأصول والأحكام مرتبطة أساسًا بالعدالة، وهي في خدمتها.
فيا ايها القضاة والموظفون القضائيون، ويا ايها المحامون، انتم مدعوون لخدمة العدالة والمحبة والحقيقة، ولتحقيقها في عملكم اليومي. فتجب بالتالي محبة الثلاث معًا العدالة والمحبة والحقيقة.
2. المحبة والعدالة
لا عدالة بدون محبة، ولا محبة بدون عدالة. محبة بدون عدالة ليست بمحبة. العدالة فضيلة اساسية مهمة تعطي كل واحد حقه. في كل جماعة وفي الكنيسة لا يكفي احترام الحقوق، بل بدافع من المحبة توهب الذات، وتعاش خدمة المحبة. "فالعدالة لا تُفهم إلاّ في ضوء المحبة" (الرسالة العامة للبابا فرنسيس : أحبّنا Dilexit nos، 197). في الحقل القضائي يجب معاملة الناس بعدالة وخاصة بمحبة. فلا تنسوا ابدًا ان من يقصدكم طالبًا ممارسة خدمتكم الكنسية، يجب ان يرى وجه امنا الكنيسة المقدسة التي تحب بحنان كل ابنائها.
وهكذا نتجنّب عدالة باردة ومجرّد توزيعية، وبدون رحمة. فالمطلوب حيوية المحبة التي يزرعها الله في قلوبنا. وإلاّ كنا امام شبه فضيلة غير قادرة على بناء الحياة معًا.
العدالة اذن لا تكفي وحدها، ان لم ينفسح المجال لفضيلة أخرى هي المحبة لتكيّف الحياة البشرية على اختلاف وجوهها. من هنا القول المألوف "منتهى العدالة منتهى الظلم". هذا القول لا يقلل من قدر العدالة، لكنه يشدد على ضرورة الغوص في قوى روحية أعمق من تلك التي يقوم عليها نظام العدالة (البابا يوحنا بولس الثاني؛ في الرحمة الإلهية عدد 12).
لا يمكن افتراض محبة من دون عدالة. فالمحبة تتخطى العدالة، لأن من يحب يعطي، يقدّم مما له للآخر. ولكن ليس ذلك من دون العدالة التي تقتضي اعطاء الآخر ما هو له. لا أستطيع اعطاء الآخر مما هو لي، من دون اعطائه اولًا مما يعود اليه بحكم العدالة. من يحب الآخرين هو عادل تجاههم (البابا بندكتوس السادس عشر: المحبة في الحقيقة،22). جوهر العدالة انها فضيلة محبة الغير، وتحركنا باتجاه خير الآخر بحيث نعرف واقعيًا اين هي حقوقه وواجباته. فباسم المحبة لا يمكن اهمال ما هو واجب عدالة. والرحمة لا تمحو العدالة، بل على العكس تدفع الى عيشها (البابا فرنسيس: خطابه الى تلامذة الروتا). ان العدالة غير منفصلة عن المحبة، بل هي من صميمها. وعلى القاضي الكنسي ان يعتبر ان مقتضى العدالة الأول هو احترام الأشخاص، وعليه بعد العدالة ان يسعى الى الإنصاف، ومن بعده الى المحبة (البابا يوحنا بولس الثاني: خطابه للروتا في 17 شباط 1979). وعليه تحديد الزواج اذا كان حقيقيًا، فهو مرتبط بالحقيقة التي تبحث بالتزام وتواضع ومحبة (البابا يوحنا بولس الثاني: خطابه في 4 شباط 1980).
3. المحبة في الحقيقة
نقرأ في رسالة البابا بندكتوس السادس عشر: "المحبّة في الحقيقة": كلّ شيء ينبع من محبّة الله، بها كلّ شيء يتكوّن، وكلّ شيء يصبو إليها. المحبّة هي العطيّة العظمى التي منّ بها الله على البشر. ومن الضرورة أن تتوافق المحبّة مع الحقيقة، ولذلك دعا بولس الرسول إلى "الاعتصام بالحقّ في المحبّة" (أفسس 4: 15).
والرسالة البابويّة تدعو إلى "المحبّة في الحقيقة"، بحيث يجب البحث عن الحقيقة واكتشافها والتعبير عنها في خدمة المحبّة. ولكنّ المحبّة بدورها، يجب أن تُفهم وتُمارس على ضوء الحقيقة. نخدم بذلك ليس فقط المحبّة، بل نسهم أيضًا في مصداقيّة الحقيقة بإيضاح قدرتها على التصديق والإقناع في واقع الحياة الاجتماعية الملموس" (الفقرة 2).
وتستنتج هذه الرسالة أنّه "لا يمكن للمحبّة أن تسطع وتُعاش بأصالة إلّا في الحقيقة". فالحقيقة نور يُضفي على المحبّة معناها وقيمتها. هذا النور هو في آن نور العقل والإيمان، الذي به يبلغ الفهم إلى ممارسة المحبّة الطبيعيّة والفائقة الطبيعة. وبنور الحقيقة يدرك الفهم معنى العطيّة والقبول والشركة.
ونتعلّم من رسالة البابا بندكتوس السادس عشر "المحبّة في الحقيقة" أنّ "المحبّة حبّ يُقبل من الله ويُعطى؛ وإنّها نعمة ينبوعها الحبّ النابع من الآب للإبن في الروح القدس؛ وإنّها حبّ ينزل من الابن علينا". هذا الحبّ الإلهيّ هو حبّ خالق منحنا الوجود، وحبٌّ فادٍ أعاد خلقنا في صورة الله، وحبُّ أظهره المسيح وحقّقه، وحبٌّ أُفيض في قلوبنا بالروح القدس الذي أعطانا إيّاه المسيح من عند الآب. إنّ البشر، موضوع حبّ الله، يُجعلون فعلةً للمحبّة، ويُدعون إلى أن يصبحوا هم أنفسهم أدوات النعمة، كي يفيضوا محبّة الله وينسجوا روابطها" (الفقرة 5).
للقاضي الكنسي دور خطير ولا سيما في الدعاوى الصعبة، كقضايا عدم القدرة النفسية لعقد زواج صحيح. انها خدمة الحقيقة والمحبة في الكنيسة:
انها خدمة الحقيقة التي تخلص اصالة الزواج في قلب ثقافات وتصرفات تظلمه.
وانها خدمة المحبة تجاه الجماعة الكنسية التي تخلصها من الشكوك في رؤية اعلان بطلان الزيجات بشكل اوتوماتيكي في اية حال من تعثر الحياة الزوجية او من بعض نقص نفساني.
وانها خدمة المحبة ايضًا تجاه الزوجين اللذين، حبًا بالحقيقة، يجب عدم اعلان بطلان زواجهما. هذه مساعدة لهم بعدم غشهم بشأن الأسباب الحقيقية لعدم نجاح زواجهم، والاّ وقعوا في ذات الأسباب في حال عقدوا زواجًا ثانيًا.
وانها خدمة المحبة تجاه مؤسسات اخرى ومنظمات راعوية في الكنيسة، بحيث عندما ترفض محاكمنا ان تكون وسيلة سهلة لحلّ الزيجات المتعثرة، يمنع كسل تنشئة الشباب على الزواج كشرط لعقد هذا السرّ (البابا يوحنا بولس الثاني: الخطاب في 3 شباط 1987).
4. الخاتمة :
"المسيحيّة هي حضارة المحبّة الحقيقيّة" في الشؤون الزمنيّة: الاجتماعية والسياسيّة والاقتصاديّة، كما في الحياة الزوجيّة والعائليّة. إنّها إعلان حقيقة حبّ المسيح في المجتمع. نحن بحاجة إلى نشر هذه الحضارة، وتجسيدها في الأفعال والمواقف والمبادرات. يعلّم المجمع الفاتيكاني الثانيّ أنّ "من يتّبع المسيح، الإنسان الكامل [في المحبّة والحقيقة]، يصبح هو نفسه أكثر إنسانًا" (الكنيسة في عالم اليوم، 41).
يتم قراءة الآن
-
سلام متمسك بصلاحياته: لست «ليبان بوست»... عقبات امام التأليف؟ التعيينات الأمنية على نار حامية... هل تبدأ المداورة من المراكز الهامة؟ ماكرون لفريقه: مؤتمر لإعادة الاعمار في بيروت بحضور دولي
-
أنا أميركا ... أنا العالم
-
العالم يترقب مُفاجآت ترامب... مصالح «أميركا أولاً» أسبوع حاسم جنوباً...غموض «إسرائيلي» والمقاومة تحذر توزيع نهائي للحقائب الأساسيّة... ولادة قريبة للحكومة
-
أيّ رؤوس ستسقط ...؟!
الأكثر قراءة
عاجل 24/7
-
15:21
العدو الإسرائيلي ينفذ تفجيراً في مركبا جنوب لبنان
-
14:27
الجيش الإسرائيلي نفّذ عمليّات نسف وتفجير في بلدة عيتا الشعب
-
13:17
المجلس الأوروبي يعتمد حزمة مساعدات ثالثة لدعم الجيش اللبناني بقيمة 60 مليون يورو
-
13:12
غوتيريش: قوة ترامب الدبلوماسية حسمت اتفاق وقف النار في غزة
-
12:51
بدأ الجيش اللبناني إعادة تمركزه في بلدة كفرشوبا
-
12:41
حركة المرور كثيفة على الاوتوستراد الداخلي وضمن التقاطعات طرابلس