عندما نتحدث عن القاضي، والمحامي منيف حمدان الذي غادرنا منذ فترة وجيزة، فإننا لا نتحدث عن رجل قانون يشبه غيره، وان كان سجل القضاء في لبنان يحفل بالعديد من الاسماء التي خلدت اسمها باحرف من نور. لا نبالغ إن قلنا إن منيف حمدان شكل بشهادة جميع عارفيه منهجاً لا ينهض بمثله إلا حملة الرسالات.
ولد القاضي حمدان في الكفيرالواقعة في قضاء حاصبيا في منزل متواضع محدود الدخل، كان والده يستدين القرش ليعلمه، وبعد أن نال الشهادة المتوسطة في مدرسة القرية نزل إلى صيدا، لأكمال المرحلة الثانوية في المدرسة الرسمية. ولكن مع وصوله قيل له إنه لم يعد هناك امكنة شاغرة، فكان ان قصد معروف سعد طلباً للمساعدة، والذي ذهب برفقته إلى المدرسة، وتمنى على اداراتها عدم حرمان الشاب القادم من بعيد من فرصة التعلم، فتم التجاوب معه، ولكنهم طلبوا أن يحضر كرسيه معه لأن المقاعد لم تعد تتسع. وشعورا منه بالوضع المادي الصعب لعائلته قرر الاتكال على نفسه في تأمين مصاريفه، فعمل بعد الظهر في بساتين الليمون.
ربما يكون القدر قد شاء أن يضع منيف حمدان في موقعه الصحيح، وذلك عندما لم يحالفه الحظ في امتحانات الدخول إلى دار المعلمين، ولكنه عاد وابتسم له في دورة مساعد قضائي، مما اعطاه الفرصة أن يضع رجله على اول الطريق في درب العدالة. لم يقنع منيف حمدان بوظيفته. كان طموحه دائماً يناديه دائماً للسير إلى الامام. فانتسب إلى كلية الحقوق في بيروت، وكان دائماً بين الاوائل. وبعد تخرجه تقدم بطلب انتساب إلى معهد القضاة، وحل اولاً في مباراة الدخول، ولكن المحاصصة الطائفية حاولت ان تحرمه من فرصة هو مؤهل له في اعلاء الحق وبلوغه، وذلك من خلال محاولة استبداله بشخص اخر لم يشترك في المباراة، ولم يكن له حق أن يشترك، ولأن منيف حمدان ليس من النوع الذي يقبل أن يُهرس حقه امام عينيه، ويبقى متفرجاً قرر المواجهة، وذهب على الفور لمقابلة الرئيس الياس سركيس، وكان يومذاك مديراً عاماً لرئاسة الجمهورية في عهد الرئيس شارل حلو، وطالبه برفع الظلم الذي وقع عليه، والذي بعد ان استمع إلى قصته قررالدفاع عنه، واطلق صرخته المشهورة "الله ابوهم كيف يطبقون القوانين في بلادي"، وكررها ثلاث مرات فعلمه بموقفه النبيل هذا إن نصرة المظلوم هي اعذب صلاة في محاريب العدالة". بعد ذلك تابع منيف حمدان تحديه لاصحاب النفوذ، واتصل برشدي المعلوف كاتب عمود "مختصر مفيد" في جريدة الصفا الذي تبنى قضيته، واستنفر المحررين، ووافق على اعتصامه في مكاتب الجريدة إن لم يتراجع المتسلطون عن تسلطهم بعد فتح النار التحذيرية، فتراجعوا. طوال سنوات الدراسة في معهد القضاء كان ترتيب منيف حمدان هو الاول دائماَ، ويعد انتهاء الدورة اقام وزير العدل شفيق الوزان حفل عشاء تكريمي للقضاة المتخرجين القى في نهايتها طليع الدورة القاضي منيف حمدان كلمة باسم زملائه. اجمع الحاضرون على انها تشكل منهجا متكاملاً لنهضة قضائية، شاملة ولشدة انبهار وزيرالعدل بها، تمنى على مجلس القضاء الاعلى تعيين منيف مدعياً عاماً فوراً.
باشر منيف حمدان حياته القضائية محامياً عاماً في محافظة الشمال، حيث ترك بموافقه عناوين لا يسمو إليها الا الكبار، وكان منها عندما رفض اطلاق سراح احد الموقوفين المحسوبين على رئبس الجمهورية سليمان فرنجية، بالرغم من كل الوساطات والتدخلات، وبسبب موقفه هذا تم نقلة إلى بيروت، وكان ذلك عام 1972.
في بيروت واجه منيف حمدان رئيس الحكومة صائب سلام الذي اتصل به شخصياً متمنياً عليه اطلاق سراح بعض الموقوفين من انصاره المقربين، والذين القي القبض عليهم بالجرم المشهود في الحملة الانتخابية النيابية عام 1972 بتهمة مخالفة قانون الانتخاب. ولكنه اعتذر، واصر على التمسك بالقانون، والذي اقسم على الالتزام بابجديته، والتي بها يكبر ويغتني.
لم يخضع منيف حمدان طول فترة خدمته في السلك القضائي بشهادة جميع من عرفه لإي اغراءات اوضغوط، كان هاجسه الدائم تشريف العداله بادائه الراقي، والشواهد على ذلك اكبر من أن تعد او تحصى. كان يؤمن دائماُ إن تعرية القضاء من الحق هو مفتاج الانحطاط في المجتمع، وهو قالها في إكثر من ندوة ومحاضرة له.
تولى منيف حمدان خلال حياته القضائية مناصب رفيعة، وتصدى لملفات حساسة، وان ينسى قضاة لبنان فهم لم ينسوا وقفته الشهيرة، ودوره المؤثر عام 1982 في اعلان الاضراب القضائي المفتوح، والذي فرض على الحكومة انشاء صندوق التعاضد للقضاة.
كان محامياً عاماً في محكمة جنايات القتل، والتي تأخر انشاؤها ثلاث سنوات بسبب الخلاف على رئاستها بين المسلمين والمسيحيين، وعندما استقر الرأي ان تكون للمسلمين، انتقل السجال ليصبح بين السنة والشيعة حول الاحق برئاستها. وعندما حسم الامر. الفت اول هيئة من القضاة حسن قواس رئيساً. لبيب زوين والياس موسى مستشارين، وعقدت اول جلسة لها بتاريخ 22/5/1978 في حضور ممثل النيابة العامة لديها المحامي العام منيف حمدان، والذي القى كلمة تميزت بوجدانيتها وفصاحتها جاء فيها: "وإن كانت الحرب قد انهكت عدالتنا، حتى صارت خيمة عنكبوت لا تستقبل في جنباتها إلا بائع الورد على الرصيف، وسارق الرغيف لطفلة تتضور جوعاً فإن محكمتكم الكريمة قد جدلت للعدالة خيوطاً من حرير تطوق بها اعناقاً غليظة عبثت بكرامة الوطن وداست كرامة الانسان".
في ترؤسه لمحكمة الجنايات في بيروت قبل استقالته من القضاء، وانصرافه إلى المحاماة بعد ان وصلت تعويضات القضاة إلى حال تستدعي النحيب. كان منيف حمدان كعادته صخرة في الدفاع عن شرف المهنة، والامثلة في هذا المجال كثيرة. كان احدها عندما احيل امامه للمحاكمة احد تجار المخدرات، والذي كان مغطى بشبكة واسعة من العلاقات الامنية والسياسية في لبنان وخارجه. يومذاك احد الاشخاص عرض عليه اغراءت مادية ومعنوية يسيل لها اللعاب مقابل التساهل في الملف، ولكنه رفض المساومة على ضميره المهني، وفي افتتاح جلسات المحاكمة طلب من رئيس القلم أن يدون في سجله في حضور المحامين، وجمهور من المتابعين الكلمة الاتية: "قلناها في الزمن البعيد، وقلناها في الامس القريب ونقولها الان، وسنبقى نقولها حتى مجيء الساعة سنعطي الحق لصاحب الحق، ولو كانت ملوك الارض ضده، وسنقتض من المعتدي ولو كانت ملوك الارض معه".
بهذا الايمان كان منيف حمدان، والذي جعله ينتج فكراً وحركة للعدل ليس بمقدور إلا اصحاب النفوس الكبيرة انتاجها. صدق سعيد تقي الدين عندما قال "إن الكبار لا ينتهون بمأتم".
يتم قراءة الآن
-
لهذه الأسباب... أورتاغوس ألغت زيارتها الى بيروت
-
ماذا يريد نتنياهو من لبنان؟
-
خلافات أميركية فرنسية بشأن بقاء «اسرائيل» بالنقاط الـ 5 في الجنوب «مكانك راوح» وغموض يحيط باجتماعات سلام... هل نضجت الطبخة؟ التحرك الشعبي متواصل جنوباً والغارات وصلت الى وادي خالد وجنتا؟
-
"إسرائيل" تشكك بانتشار الجيش اللبناني جنوباً وتطالب بكشف هويّة أفراده!
الأكثر قراءة
عاجل 24/7
-
21:31
وزير الخارجية الأميركي: عملنا مستمر لضمان الإفراج عن جميع الاسرى الذين لا تزال حماس تحتجزهم
-
21:14
البيت الأبيض: السيسي أكد أن قيادة ترمب تبشر بعصر ذهبي للسلام بالشرق الأوسط
-
21:13
الخارجية السودانية: مقتل أكثر من 60 شخصا نتيجة قصف مليشيا الدعم السريع لسوق في أم درمان
-
21:12
محمود عباس: مستعدون للعمل مع الدول الشقيقة والصديقة لتسـريع إعادة إعمار غزة وربطها بالضفة الغربية
-
21:12
إعلام العدو: الإعلان عن اختيار إيال زمير رئيسا جديدا للأركان خلفا لهرتسي هاليفي خلال ساعات
-
19:59
مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي: نتنياهو يتوجه إلى أميركا غدا للقاء ترامب