تمنّى الحكام في هذه الانتخابات البلدية والاختيارية على الناخبين المشاركة بكثرة في الانتخابات وشدّدوا على حقّهم في محاسبة رؤساء وأعضاء المجالس البلدية والاختيارية واختيار بدائل عنهم في حال اعتبروا أنهم لم ينتجوا أي إنجازات تذكر أو خالفوا القوانين والأنظمة...
ومن جهة أخرى أعلنت السلطات الأمنية أنها كشفت عن عمليات رُشى من قبل راشين لمصلحة مرتشين وأحالتهم إلى القضاء المختص. وفي معرض تعليقنا على هاتين المعضلتين أي المحاسبة والرشى نورد في ما يلي مقاربتنا وهي تقتصر على ناحية الفساد المالي.
تتمثّل المحاسبة الفعلية في مراقبة مدى تبدّل غِنى وثروة كل من يتولى المسؤولية البلدية أو الاختيارية، ونعْني بذلك تنامي وتزايد أملاكهم وأصولهم الماديّة في حال اختلفت بشكل لافت وغير مألوف قياساً مع مبالغ تعويضاتهم القانونية، مع الأخذ بعين الاعتبار ما اكتسبوه من الإرث المستحق لهم قانوناً. وتجدر الإشارة إلى أننا لا نبغي في مقاربتنا هذه التعميم والذي هو خطأ منهجي بل نتحدّث فقط عن حالات فرديّة.
الحق يُقال أن المواطن العادي يلاحظ أن عدداً كبيراً من أعضاء المجالس البلدية خرجوا من البلدية موفوري المال والممتلكات، وأصبحوا بالتالي في وضع مالي يختلف تماماً عمّا كانوا عليه عندما دخلوا إليها. فالدولة صامتة وهي لا تراقب ولا تُحاسب في حين أن القوانين واضحة لجهة الإثراء غير المشروع، لكن الواقع يشير إلى أنه لا توجد نيّة لدى سلطات المراقبة في محاسبة الفساد وممارسة دورها وذلك « لغاية في نفس يعقوب « أي لحاجة خاصة أو لسبب خفيّ أو لغرض شخصي.
وهكذا نجد أنفسنا أننا اخترنا أعضاء بلديات جدد لكي يحلّوا محل أسلافهم لكي يكونوا أفضل منهم، لكننا نفاجأ بانتهاجهم أساليب وطرق أسلافهم نفسها، لجهة إتمام الصفقات المشبوهة وغير القانونية والاستفادة المادية غير المشروعة. فالسؤال الذي نطرحه هنا أين تكمن المحاسبة، فهل هي في استبدال الأعضاء القدماء بأعضاء جدد؟ إذ يخرج الفاسد ثرياً من دون حسيب أو رقيب ويدخل العضو الجديد فيرى أنّ سَلَفَه اغتنى من دون أي محاسبة، ممّا يساعد على فتح شهيّته أمام عسل السلطة أو البلدية، فأين هي المحاسبة الفعلية، فلا شك أنها محاسبة وهميّة أو غير مكتملة.
وتجدر الإشارة إلى أن اكتشاف الفاسد مهما عَلا شأنه من أسْهل المهمات، إذ يكفي أن يتمّ الكشف عن رصيد أمواله وأصوله قبل تولّيه المسؤولية العامة؟ ثمّ مقارنته مع رصيد أمواله بعد خروجه من السلطة وعندئذٍ يترتّب عليه أن يبرّر المصدر الشرعي لهذا الفرق الحاصل بين الرصيدين. مهما يكن من أمر، فإن الكلام الشائع الذي يتداوله المواطنون فيما بينهم عن فساد من يتولّى أي سلطة عامة يحتوي على بعض الحقيقة ولا يمكن تجاهله أو التسليم بأن كل ما يُقال ويُسمع مجرّد إشاعات، إذ من السذاجة عدم تصديق أقوال الناس في الشارع. والأنكى من ذلك أن بعض أركان الدولة غالباً ما يتداولون فيما بينهم أخباراً عن فساد أحدهم أو العديد من الموظفين المدنيين وغير المدنيين والقضاة، ولكن يعمدون إلى غضّ النظر من دون أن يرفّ لهم جفن. ومن زاوية هذا المقترب يطيب لي أن أذكّر بقصّة طريفة وهي حقيقية يردّدها الناس في قرى لبنان، عن أن أحد السياسيين الكبار كان مرّة في رحلة صيد في أحد البساتين البعيدة عن العاصمة، وصدف أن التقى هناك بسيّدة عجوز تعمل في الحقل وغير عليمة بهويّة الحكام فسألها السياسي: ما هو رأيك بفلان وهو يقصد نفسه، فأجابت ببساطة وعفوية « بيروح الشبعان وبيجي الجوعان «، فضحك وسرّ بجوابها، إذ قد يعكس الحقيقية المرّة التي تنطبق ليس فقط على العديد من الحكام، بل أيضاً على العديد ممن تولّوا مسؤولية عامة.
بقي علينا أن نشير إلى ناحية محاسبة الراشي والمرتشي أو موضوع الرشى الانتخابية. ولكي نكون أكثر دقّة في وصفِنا للواقع، نقول إنه من غير المقبول أن نحاسب مواطناً عادياً غير ميسور ارتضى لنفسه أن يقبل مئة دولار مقابل تصويته لأحد المرشحين في وقت وزمن يعمّ فيه الفساد في الدولة، ويعتري ما يُسمّى النخبة الحاكمة أو الجهات القابضة على مقدرات الدولة من موظفين وسياسيين وغيرهم. ففي دولة يعاني فيها المواطنون من أزمة بطالة خانقة ومن ظروف معيشية صعبة من الطبيعي أن يقبض المواطن ثمن صوته أو يتلقى خدمة ما تساعده على تأمين معيشة عائلته حيث لا ضمانات اجتماعية جديّة تعمل لحمايته وفقاً للأصول. وهكذا تبيّن الوقائع أن القانون لا يطبّق إلا على الضعفاء وإن المحاسبة لا تستهدف إلا المواطن العادي الذي لا يستفيد من منافع الزبائنية أو المحسوبية. وفي معرِض تعليلنا على صحة الظروف الاجتماعية التي تحيط بالرشى الانتخابية، نشير إلى هذه المقولة المعبّرة:
« إن سارق الزهرِ مذمومٌ ومحتقرُ وقاتلُ النفسِ لا تدري به الأُممَ»
ولا نكون بعيدين عن جادّة الصواب إذا قرّرنا أن نضمّ صوتنا إلى صوت من اعتبر أن حمل السلاح الفردي هو جزء من ثقافتنا ونقول إن ظاهرة الرشى الانتخابية هي أيضاً جزء من ثقافتنا وتراثنا. وهكذا نرانا مقودين إلى تذكر واقعة وهي أنه في نهاية الستينات وبداية السبعينات اعتاد أحد الزعماء الكبار في البقاع إرسال رشى إلى بعض أبناء القرى غير الميسورة في موسم الانتخابات النيابية، وكان الأهالي ينتظرون هذه المبالغ لكي يؤمّنوا جزءًا من نفقاتهم المعيشية. في حين عَمَدَ زعيم آخر في المنطقة ذاتها وبدهاء أكبر إلى قسمة ورقة الخمسين ليرة آنذاك إلى قسمين، فأعطى القسم الأول إلى الناخبين، وعندما تأكد لاحقاً من تصويتهم لمصلحته تصدّق عليهم بالقسم الثاني في إطار تقنية عملية عالية المستوى عن طريق تسجيل رقم كل ورقة نقدية واسم من تلقاها.
وبكلمات وجيزة نقول ختاماً أن ظواهر الرشى الانتخابية وغضّ النظر عن المحاسبة الفعلية وإطلاق الرصاص ابتهاجاً أم حزناً، هي مع الأسف جزء من تراثنا وعاداتنا وتقاليدنا، وهي متجذّرة في عقولنا ونفوسنا، ونحتاج حقاً إلى أجيال عديدة للحدّ منها ومعالجتها، لأن الثقافة المجتمعية تنمو ببطء، وتستلزم خططاً حكومية في مجال الحوكمة الرشيدة والتوعية الاجتماعية.
* دكتور في القانون العام
الأكثر قراءة
-
الانتخابات النيابية المقبلة ترسم موقع لبنان في التحولات الإقليمية اتصالات بين القوات والتيار في زحلة... وبيروت تفقد المناصفة بغياب المستقبل تشدد واجراءات امنية في ملف الاتصالات بين لبنانيين وعرب الـ 48
-
لمن تقرع طبول العرب؟!
-
تخبّط في زحلة قبل 24 ساعة على المنازلة : "مكره أخوك لا بطل! 50-50 حظوظ تحالفات التيار والتواصل العوني القواتي شمل القيادة!
عاجل 24/7
-
12:50
خامنئي: إسرائيل ورم سرطاني خطير ومميت في المنطقة ويجب استئصاله
-
12:49
الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أمام القمة العربية في بغداد: نرحّب بالتزام المسؤولين اللبنانيين بحصر السلاح بيد الدولة وسلامة الأراضي اللبنانية يجب أن تحترم
-
12:46
رئيس الوزراء الإسباني: علينا الوصول إلى حل الدولتين والاعتراف بالدولة الفلسطينية
-
12:44
رئيس الوزراء الإسباني أمام القمة العربية في بغداد: سنقدّم مشروع قرار للأمم المتحدة لإنهاء الحصار الإنساني على غزة وإعادة رسم الشرق الأوسط بالقوة ستؤدي لكوارث
-
12:33
أبو الغيط: سياسات إسرائيل المتهوّرة في المنطقة تبقينا في دوامة مفتوحة من المواجهة
-
12:32
أبو الغيط: جماعة الحوثي لا تزال تصر على الانفراد بمقدرات اليمن
