من تحت الركام، من بين الخيام، ومن داخل مشهد النزوح القاسي في غزة، وُلد مشروع "ما بين السماء والبحر" كمحاولة فلسطينية لتوثيق الألم والكرامة معًا، من دون وسيط، ومن دون خطاب ضحية.
وخلف عدسة هذا المعرض، تقف قصة شخصية مؤثرة لمخرج ومصور فلسطيني عاش الحرب بجسده، لا بعدسته فقط.
إنه إسماعيل أبو حطب، الذي أصيب إصابة خطيرة في الثاني من تشرين الثاني 2023، خلال عمله الصحفي في برج الغفري وسط غزة. ولكن إصابته لم تكن عابرة، بل فقد على أثرها القدرة على المشي لفترة طويلة، واضطر إلى خوض تجربة النزوح القاسية داخل القطاع بنفسه، هذه المرة كمدني، لا كمصور ومخرج.
ويقول أبو حطب إنه "بعد الإصابة، كنت بين الحياة والموت. لكن عندما استعدت وعيي، كان أول ما فكرت به هو الكاميرا. شعرت أن عليّ أن أعود للتوثيق، ليس من أجل الإعلام، بل من أجل الناس الذين يشبهونني". مضيفاً أنني "لم أكن قادرًا على المشي، لكنني تمكنت من التصوير وأنا على الكرسي المتحرك، أو من داخل خيمة النزوح".
وفي ذروة العدوان "الإسرائيلي" على غزة، وبعد نجاته من الإصابة، بدأ أبو حطب بتصوير لحظات النزوح اليومية، الحياة داخل الخيام، صمود العائلات، ولحظات الحزن والفرح الصغيرة، مستخدمًا عدسته كأداة للنجاة وللتوثيق في آن. لم يخطط لمعرض فني، لكن الصور والمشاهد التي جمعها تحوّلت لاحقًا إلى مشروع بصري وإنساني بعنوان "ما بين السماء والبحر".
ويقول أبو حطب إنني "وثّقت نزوح عشرات الآلاف من العائلات الهاربة من الموت، وجدت في عدسة الكاميرا طوق نجاة. ومن رحم هذه العودة وُلدت منصة BYPA، كمساحة حرة تروي قصص الناجين والنازحين، وخرج أول معرض بعنوان "ما بين السماء والبحر" ليحمل شهادة حيّة من غزة إلى العالم".
وانتقل المشروع من رفح وخانيونس إلى مدينة لوس أنجلوس، حيث أقيم معرض فني شارك فيه إسماعيل بنفسه، وقدّم فيه مادته المصوّرة أمام جمهور متنوع من باحثين، فنّانين، طلاب وناشطين.
ويشير أبو حطب أنني "اخترت عنوان "بين السماء والبحر" لأنه يُجسّد تمامًا الحالة التي عشناها على شاطئ غزة خلال النزوح القسري. عندما فقدنا كل ملجأ، لم يبقَ لنا سوى البحر من جهة، والسماء من فوقنا—لكن لا هذا ولا ذاك كانا ملاذًا آمنًا. البحر كان محاطًا بالبوارج الحربية الإسرائيلية، والسماء كانت تعج بطائرات الأباتشي والاستطلاع. حتى الهواء أصبح مراقبًا، وكل حركة تحت القصف محسوبة"، مضيفاً أن "هذا العنوان بالنسبة لي هو أكثر من وصف مكاني؛ هو توصيف لحالة حصار معلّقة بين موتين، لا يمكن التقدّم ولا التراجع. لكنه أيضًا يحمل رمزية البقاء. أن تكون "بين السماء والبحر" هو أن توجد رغم كل شيء، أن تتمسك بالحياة في أضيق المساحات".
المعرض نفسه جسّد هذا الشعور: خيمة نُصبت في قلب لوس أنجلوس، لكنها مستوحاة من خيام غزة، ومحاطة بصوت البحر وأزيز الطائرات. كأنها محاصَرة بنفس الطريقة—لكنها تنطق، تشهد، وتروي للعالم ما حدث في المسافة بين السماء والبحر.
معرض "بين السماء والبحر" لم تكن مجرد عرض للصور، بل تجربة حسية مكتملة، جمعت بين الصور ومقاطع الفيديو والتسجيلات الصوتية الحيّة من داخل غزة، وفتحت نقاشًا مباشرًا بين الجمهور والمصور حول الرواية الفلسطينية الأصلية.
وتقول إحدى منظمات الحدث في BYPA إن "إسماعيل لم يكن ضيفًا، بل كان شاهدًا حيًا. وجوده أضفى على المعرض روحًا مختلفة، لأنه كان يروي من داخل التجربة، لا من خارجها".
ويصرّ أبو حطب على أن مشروعه لا يسعى لإثارة الشفقة أو طلب التعاطف، قائلاً إنني "لا أطلب تعاطفًا، بل أقول: انظروا إلينا. لا كضحايا، بل كبشر. الكاميرا لم تكن فقط مهنتي، بل كانت وسيلتي لأثبت أنني ما زلت على قيد الحياة".
ما عرضه في لوس أنجلوس لم يكن مجرّد توثيق للدمار، بل لحظات من الحياة المعلّقة: أم تخبز على الحطب، طفل يلعب بين الخيام، ضحكة مسروقة من قلب المأساة، يشدد أبو حطب إلى أن "الغرب اعتاد أن يرى الدمار. أما أنا، فأريدهم أن يروا الإنسان".
وبعد النجاح الباهر للمعرض، يلفت أبو حطب إلى أن "ما فاجأني حقًا هو حجم التفاعل. لم أتوقع أن يخيم الناس في قلب لوس أنجلوس داخل خيمة غزة، ويخرجوا باكين، صامتين، عاجزين عن الكلام. كثيرون أخبروني أن الصور لم تكن مجرد توثيق، بل تجربة شعورية كاملة نقلتهم من مدينة غربية آمنة إلى شاطئ مليء بالألم والمقاومة. هذا أثبت لي أن الصورة، عندما تصدر عن تجربة حقيقية، قادرة على اختراق المسافات والجدران والقلوب".
ويؤكد أبو حطب على أن "من خلال معرض "ما بين السماء والبحر"، حاولنا أن ننقل غزة كما هي، بحقيقتها المجردة: بلا تزييف، بلا تصنّع، فقط كما عشناها. وحين وصلت هذه الصور إلى لوس أنجلوس، إحدى أكثر مدن العالم رفاهية، حدث ما لم نتوقعه: الناس شعروا بأنهم داخل القصة، داخل الخيمة، داخل النزوح. لأن الألم الإنساني لا يحتاج إلى ترجمة. حين يرى الإنسان إنسانًا آخر يتألم، لا بد أن يشعر. نحن، في النهاية، متشابكون في إنسانيتنا مهما اختلفت لغاتنا وجغرافياتنا".
ما هي BYPA؟
BYPA منصة فلسطينية إبداعية غير ربحية تأسست لتكون مساحة حرة للشباب الفلسطيني للتعبير عن قصصهم وهويتهم عبر وسائل متعددة مثل التصوير، السرد القصصي، والوسائط المتعددة.
وتسعى BYPA لكسر الصور النمطية السائدة عن الفلسطينيين عبر عرض قصص تركز على الأمل، الإبداع، والصمود رغم الصعوبات.
وتوفر المنصة دعمًا وتمكينًا للمبدعين من خلال ورش عمل وبرامج تدريبية ومنح مالية تساعد على إنتاج مشاريع فنية تعكس الثقافة الفلسطينية وتعزز الهوية الوطنية. كما تنظم معارض دولية وبرامج ثقافية تهدف إلى نشر الرواية الفلسطينية على الصعيد العالمي، لتكون صوتًا حقيقيًا وموثوقًا يعكس تنوع التجارب الفلسطينية بين الداخل والشتات.
وكشف إسماعيل أبو حطب لـ "الديار" إلى أن معرض "بين السماء والبحر" سيُقام أيضاً في شيكاغو خلال شهر تموز وفي لندن خلال شهر آب.
"بين السماء والبحر" ليس مجرد معرض، بل شهادة حيّة وملف إنساني مفتوح، من مصور فلسطيني مشى فوق جرحه، وفتح الكاميرا على وجعٍ لا يُحكى... بل يُرى. فهو صرخة موثّقة بالضوء والظل، تروي تفاصيل الحرب بعيون من عاشها، وتعيد للغزّة صوتها خارج دوامة الأرقام والعناوين العاجلة.
الأكثر قراءة
-
واثقون من عقلانيّة حزب الله
-
باراك للمسؤولين : تعاونوا مع "سوريا الشرع"... أسرعوا بنزع السلاح وسأعود بأجوبة خلال أسابيع عون يُصارح الأميركيين : التطوّرات أخّرت التنفيذ... وسنكثف الإتصالات!
-
اللواء شقير اجتمع مع دبور وعردات ... وإجراءات "إسرائيليّة" تعوق عودة الأحمد فصائل فلسطينيّة ترفع رؤية الى رئيس الجمهوريّة تتضمّن مطالب منها الأمن
عاجل 24/7
-
19:42
سي إن إن عن المتحدث باسم الرئاسة الإيرانية: إذا تورطت الولايات المتحدة في الحرب فهناك خيارات عديدة مطروحة، ويمكن استئناف الدبلوماسية بسهولة إذا أمر ترامب بوقف الهجوم.
-
19:14
طيران الاحتلال "الإسرائيلي" اغار على اربع دفعات على المحمودية ومحيط الاحمدية وبين بلدتي الريحان والعيشية في جنوب لبنان.
-
19:09
المندوب الإيراني في مجلس الأمن: لا يمكن للوكالة الدولية للطاقة الذرية أن تظل صامتة أثناء تعرض منشآت محمية للهجوم، وإذا انهار نظام حظر الانتشار النووي سيتقاسم هذا المجلس المسؤولية مع نظام "إسرائيل".
-
19:09
المندوب الإيراني في مجلس الأمن: مقتل وإصابة أطباء وعاملين بالمجال الإنساني في هجمات استهدفت حتى الآن 5 مستشفيات.
-
19:04
المندوب الإيراني في مجلس الأمن: "إسرائيل" اعتدت على منشآت طبية في إيران في انتهاك فاضح للقانون الدولي، ومئات المدنيين قتلوا وجرح الآلاف في العدوان على إيران.
-
19:01
مرقص: إقرار ترحيل المواد الكيميائية من معملي الجية والذوق، ومجلس الوزراء عين المصرفي توفيق خالد ناجي ممثِلاً وزارة المال في مجلس إدارة مصرف الإسكان.
