منذ نشأة الكيان اللبناني عام 1920 تحت الانتداب الفرنسي، أصبح الدين عاملا لاغنى عنه في بناء وتنظيم الحياة السياسية والاجتماعية. فقد أُقيم الكيان على أساس التوازن الطائفي، الذي تُرجم لاحقا عام 1943 في صيغة "الميثاق الوطني"، والذي كرّس توزيع المناصب العليا بين الطوائف: رئاسة الجمهورية للمسيحي الماروني، رئاسة الحكومة للمسلم السني، ورئاسة مجلس النواب للمسلم الشيعي.
إنّ هذا الترتيب لم يكن فقط لتقاسم السلطة، إنما أعطى المؤسسات الدينية دورا أساسيّا في توجيه القرار السياسي. وأصبحت الزعامات الدينية تتخطى دورها الروحي متدخّلةً في المجالات التربوية والإعلامية والاجتماعية.
وهنا، لا بدّ من الإشارة إلى العلاقة المترابطة بين الدين والدولة في لبنان. فمع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، والتي استمرّت إلى عقد وخمس سنوات، تجذّرت هذه العلاقة بين الدين والسلطة، حيث تحوّلت بعض المرجعيات الدينية إلى داعمين أو قادة فعليين للميليشيات.
فمنذ ذلك الوقت، يتم التساؤل عن كيفية بناء دولة مدنية مستقلة. ومع تسليط الضوء على لبنان وموقعه الجغرافي كبلدٍ في الشرق الأوسط تتجذّر فيه الطائفية منذ سنوات طويلة، يصعب الحديث عن مثل هذه المسألة. فقد يتعرّض الفرد إلى انتقادات عديدة، أو قد يتم التشكيك في إيمانه، أو يمكن أن يتعرّض إلى رفضٍ اجتماعي. اذ أنّ جميع الأفراد الذين تطرّقوا إلى اعتبار هذه العلاقة في لبنان كعائق أمام بناء دولة مدنية، لم يتم الاستماع إليهم بشكل جدّي، أو تمّ التعتيم على أفكارهم باعتبارها تهدّد الدين.
من أعماق هذه الأفكار يبرز غريغوار حدّاد كرجل دين تجرّأ على التفكير بحرية. وُلدَ غريغوار حدّاد عام 1924 في بيروت ، في عائلة تنتمي إلى الطائفة الملكية الكاثوليكية. تلقّى علومه الأولى في مدارس دينية، ثم ٱلتحق بالمدرسة الإكليريكية التابعة لكنيسته حيث درس اللاهوت والفلسفة. وفي عام 1950 أصبح كاهناً، ولاحقاً نال رتبة المطران ليُعيَّن لاحقاً مطراناً لبيروت وجبيل لطائفة الروم الكاثوليك.
منذ بداياته، لم يكن غريغوار رجل دين تقليدي، بل حملَ همّ العدالة الاجتماعية. وإنما الفكرة الأساسية التي كرّس لها حداد حياته هي "الإنسان أوّلا". ففي بيئة محافظة كان حدّاد مؤمناً أنّ الدين بكل قدسيّته، يجب أن يخدم الإنسان لا أن يقيّده. واعتبر أن وظيفة رجل الدين تكمن في النضال من أجل العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والتحرر من القيود الطائفية، وليس فقط الانحصار في الصلاة والتعليم الديني.
وفي الحديث عن العلاقة المتجذّرة بين الدين والدولة، كان غريغوار من أبرز المدافعين عن الدولة المدنية في لبنان. فهو لم يكن يطالب بإلغاء الدين من الحياة، بل كان يؤمن بأن الدين شأن شخصي وروحي لا يجب أن يتدخل في الحكم أو يُستخدَم كأداة سلطة، وهذا يعني أن لكلّ فرد الحرية المطلقة في اعتناق أي دين كان، وإنما هذا الاعتناق ليس من شأنه التّدخل في الحياة السياسية وكيفية إدارة الدولة. فالدولة تخدم جميع الأفراد دون النظر إلى انتماءاتهم الطائفية، وعلى الدولة أن تكون مستقلّة عن سيطرة الأديان لكي تجري عملية تنظيم المجتمع بشكل عادل قائم على احترام الإنسان كفرد تتجاوز قيمته الطائفة أو الدين. ومن هنا يشدد حدّاد على إلزامية وجود دولة مدنية غير طائفية تساوي بين جميع المواطنين.
فقد كان من أشدّ المنتقدين للطائفيّة السياسيّة، معتبرا أنها أساس الفساد والانقسام والخلافات في المجتمع. ومن أقواله: "أنا مع العلمنة، لا لأنني ضد الدين، بل لأنني أؤمن بدين محرّر، لا مسيّس". فالعلمنة بالنسبة له لم تكن نقيضا للدين، بل وسيلة لحمايته من التّسيّس والاستغلال.
فقد تعرّض حدّاد لٱنتقاداتٍ عدّة، فٱعتبره البعض أنه معادٍ للتقاليد الكَنَسيّة المحافظة أو أنه يهدّد القيم المسيحية. وإنما الفكرة الأساسية التي كان يروّج لها حدّاد كانت مختلفة تماما عن ذلك. فمن وجهة نظره، كان غريغوار يرى أنّ العلمنة تعني الفصل بين الدين كقيمة روحية وأخلاقية، وبين تدخّل رجال الدين في شؤون الدولة والسياسة، فهؤلاء لا يجب أن يلعبوا أدوارًا سياسية أو يؤثّروا في القرارات العامة.
فإنّ كل ذلك هو نابع من موقع احترام الدين وليس العداء له. فذهب حدّاد إلى أبعد من ذلك داعيا إلى ما سمّاه "العلمنة المنبثقة من الإيمان"، أي أنّ المؤمن الحقيقي لا يخشى العلمنة، لأنه يثق أن إيمانه ينبع من قناعة داخلية، لا من حماية الدولة أو السلطة. فالدين عندما يصبح بيد السلطة، يُستخدَم لأغراض سياسية تؤدّي إلى انقسامات حادّة بين أفراد المجتمع، وبالتالي إلى الفساد والحروب والخراب.
وهذا الذي كان يسلّط الضوء عليه حدّاد، أي أنّ السبب الأساسي للفساد في لبنان هو الطائفية السياسية، وإنما قيام دولة مدنيّة مستقلّة عن الدين تفتح بابا جوهريا أمام تأسيس دولة لبنانية تحترم حقوق الإنسان، وتسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية بين الأفراد، وذلك من خلال عدم النظر إلى انتماءاتهم الدينية والطائفية.
أخيرا، غريغوار حدّاد كان يرى أنّ العلمنة ليست معركة ضدّ الدين، بل معركة ضدّ الطائفية. وفي زمنٍ تسود فيه الطائفية على الحياة السياسية في لبنان، تبقى أفكاره جوهرية وركنا أساسيا، لتأسيس دولة لبنانية مدنية تَسَع الجميع وتحرّر الدين من أن يكون أداة في يد السلطة.
يتم قراءة الآن
-
عون في مُواجهة المخاطر: اشهد اني قد بلّغت لبنان بين خطابين... تباين لكن لا صدام داخلي إسرائيل تصعد...واتصالات لمنع انفجار الحكومة
-
هل تغزو الفصائل السوريّة البقاع؟
-
جهد رئاسي للوصول الى صيغة توافقيّة لحصريّة السلاح... وإلّا المجهول؟ حزب الله يزور عون في الرابية الاثنين... ولقاء قريب مع جنبلاط الانتخابات النيابيّة مفصليّة: الحريريّون باشروا التحضيرات... وتحالف «الاشتراكي» و«القوات»
-
الطفلة التي حاورت زياد قبل 29 عاماً: "منحبّك كتير بلا ولا شي"...
الأكثر قراءة
عاجل 24/7
-
10:39
"التحكم المروري":حركة المرور كثيفة من ذوق مكايل جونيه حتى مفرق غزير
-
10:32
النائب ابراهيم كنعان للـ LBCI: تبلّغت رسمياً من موفد الرئيس الفرنسي أن قانون اصلاح المصارف كما قانون السرية المصرفية قبله والانتظام المالي واسترداد الودائع شرط أساسي لعملية التعامل مع لبنان وتنظيم مؤتمر الدول المانحة للبنان في الخريف المقبل
-
10:26
استطلاع لصحيفة "معاريف" الإسرائيلية: 61% من الإسرائيليين قلقون من السفر إلى دول الإتحاد الأوروبي خشية التعرض لاعتداءات
-
09:56
"يسرائيل هيوم": بعض المواقع الإسرائيلية توقفت إثر الهجوم السيبراني وأخرى نشرت فيها رسائل سياسية
-
09:55
"يسرائيل هيوم": تعرض مواقع رياضية إسرائيلية معروفة لهجوم سيبراني واسع مصدره قطاع غزة
-
09:39
وزارة الصحة في غزة: "شاحنات تحمل أدوية ومستلزمات طبية ستدخل القطاع اليوم
