اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


زياد الرحباني يرحل، ويأخذ معه بيروت التي لم تولد بعد.

ما الذي يحدث حين تموت ضحكة؟

من يدفن ساخرا؟ ومن يعزّي بيروت إذا خسرَت آخر ساخرٍ فيها؟

استيقظنا اليوم على موت زياد.

الخبر الذي بدا وكأنه نكتة... بلا ضحك.

مات ابن فيروز الذي لم يشبهها، لكنه حمل وجعها.

مات الرجل الذي علّمنا كيف نضحك من تحت الركام، وكيف نشتم دون أن نكره، وكيف نغنّي دون أن نكون مطربين.

كان زياد طقسا، حالة، وجعا مضحكا…

ولد في قلب الحرب، وكتب للحرب، وعاش على هامش الأمل كأنه لا يؤمن به، لكنه لم يكفّ عن محاورته.

الإنسان خلف البيانو

كان بإمكان زياد أن يكون أسطورة مغنّاة، لكنه فضّل أن يبقى على الأرض، بين الناس، في المقاهي الممتلئة بالدخان، وعلى أرصفة بيروت المتعبة.

رجلٌ يعيش التناقضات: قاسٍ وحنون، صاخب ومنطوٍ، صادق بشكلٍ يربك الجميع.

لم يكن زياد حالما.

كان كارها ناعما لكل ما هو زائف.

صريحا كجرح مفتوح، لكنه لا ينزف بل يعزف.

وراء البيانو، لم يكن عازفا فقط، بل كان يُمارس التمرد.

كل نغمة عنده كانت موقفا. كل نكتة كانت طلقة.

شهادة من الشارع

قال لي سائق تاكسي صباح اليوم، وهو يمسح عينه بكمّ قميصه:

"زياد مات؟ يعني ما بقى فينا نضحك ونقول الحقيقة بنفس الجملة"؟

ثم سكت. وكان الصمت أبلغ.

أكثر من فنان… أقل من نبيّ

زياد لم يكن قديسا. كان يرتكب، يثور، يخطئ، يشتم، يهرب. لكنه لم يبع نفسه، لم يبدّل وجهه. لم يقبل التصفيق الفارغ ولا التكريمات المسمومة.

أحبّ الناس… وكرِه الجمهور.

كتب للحبّ كأنه لم يعرفه، وغنّى للوجع كأنه يسكنه.

كان سياسيا من دون حزب، ومناضلاً من دون شارع، ومعارضا من دون "يافطة".

جلد الجميع… اليمين واليسار، الحرب والسِلم، الوطن والمواطن.

قال ذات مرة: "أنا مش كافر… بس الجوع كافر، والذل كافر، والسرقة كافر".

وقال في آخر ما قال: "رح فلّ…"  وقد فعل.

لا عزاء لبيروت

بيروت اليوم يتيمة. مات آخر من يعرف كيف يقولها كما هي، بلا تنميق ولا مواعظ.

أغلق زياد البيانو... وتركني وحدي في الصمت، أبحث عن صوت يشبهه. لم أجد.

وأنت... ماذا بقي من زياد فيك؟

هل تتذكّره حين تسمع ضحكته المستفزّة على خشبة المسرح؟

أم حين تُطفأ الكهرباء، وتهمس في سرّك: "ما بدّن يانا نضوي!"

ربما في نظرتك الساخرة من الحاكم، أو في موسيقى تُقاوم البشاعة، أو في حديث جانبي عن "المشي بالـ slow motion".

زياد لم يكن مجرّد موسيقي.

كان مرآتنا، صوتنا المكبوت، ونكتتنا التي تتألم من كثرة ما ضحكنا.

وحين غاب... لم يبقَ سوى أن نسأل أنفسنا: هل يكفي أن نحزن عليه، أم علينا أن نكمل ما بدأه؟

تراث يُستدعى... وأمل يُزرع

غياب زياد الرحباني خسارة كبيرة للبنان ولبيروت، التي مثّل صوتها وروحها الساخرة.

تقع على عاتق وزارة الإعلام مسؤولية الحفاظ على إرثه الفني والثقافي، من خلال دعم التوثيق، وتكريم مسيرته، وتشجيع الأجيال الجديدة على حمل مشعل التمرد والصدق في التعبير.

بيروت التي رحل عنها لم تولد بعد، وعلينا جميعاً أن نعمل ليبقى صوته حاضراً وملهماً.

الأكثر قراءة

جهد رئاسي للوصول الى صيغة توافقيّة لحصريّة السلاح... وإلّا المجهول؟ حزب الله يزور عون في الرابية الاثنين... ولقاء قريب مع جنبلاط الانتخابات النيابيّة مفصليّة: الحريريّون باشروا التحضيرات... وتحالف «الاشتراكي» و«القوات»