في بلدٍ كان يُعرف يوما بـ"خزّان الشرق" لما يملكه من أنهار وينابيع ومياه جوفية غنية، يشهد لبنان اليوم انهيارا بيئيا مروّعا يطال منظومته المائية من جذورها. فالأرض التي كانت تنبض بالحياة تحوّلت إلى مشهد قاحل: أنهارٌ تجفّ، مياهٌ جوفية تنهار، وسدودٌ تحوّلت إلى مشاريع فاشلة تُهدر ما تبقّى من الأمل. لم تعد المشكلة مجرّد أزمة موارد مائية، بل باتت تجسيدا لانهيار وطن تُهدر ثرواته بإهمال رسمي مزمن، وسط تفاقم أزمة المناخ العالمية وتجاهل أي رؤية إنقاذية جادة. في ظل هذه الصورة القاتمة، يُطرح السؤال الأهم: هل لا يزال بالإمكان إنقاذ البيئة اللبنانية قبل فوات الأوان؟
2025: عام الجفاف التام
وفي هذا الخصوص كشف الخبير البيئي البروفيسور ضومط كامل لـ"الديار"، أن "عام 2025 سيكون عام الجفاف في معظم دول منطقة شرق المتوسط، ولبنان من بين الدول الأكثر تأثرا بهذه الظاهرة، إذ لم تبلغ المتساقطات نصف معدلاتها العامة، ولم تتساقط الثلوج تحت عتبة الـ1500 متر سوى لفترة قصيرة جدا".
والجدير بالذكر، أن هذه المنطقة كانت تشهد في السابق هطولا للثلوج بمعدل 11 مرة سنويا، وكانت المتساقطات الثلجية تصل إلى ارتفاع 200 متر فقط فوق سطح البحر. إلا أنه، ومنذ عام 2000 حتى 2010، بدأت الكارثة المناخية تضرب منطقة الشرق الأوسط بشكل تدريجي، وتفاقمت عاما بعد عام.
أما في العام الحالي، فقد وصلت أزمة المياه إلى مرحلة الخطورة القصوى، فالينابيع لم تعد تعطي أكثر من 20% من طاقتها. كما أننا لا نملك سدودا ولا بحيرات لتجميع المياه. أما الأنهار، فأغلبها تحوّل إلى مجارٍ للصرف الصحي، وبالتالي لا يمكن استخدام مياهها، في حين أن المياه الجوفية بمعظمها ملوثة إلى حدٍّ كبير، ناهيك عن ارتفاع نسبة الملوحة فيها نتيجة تسرب مياه البحر.
وأضاف كامل: "نحن من الآن وحتى الأشهر الخمسة المقبلة سنكون في خضم كارثة بيئية مائية، نظرا للارتفاع الكبير في نسبة تلوث المياه، في ظل غياب تام للمعنيين وانعدام أي خطط بيئية جديّة، ما سيؤثر سلبًا على الإنسان، وعلى الكائنات الحية، وعلى المساحات الحرجية أيضًا".
وتساءل محذراً: "هل ستحتمل الثروة الحرجية 200 يوم من العطش وغياب المتساقطات، في ظل جفاف شبه تام في معظم الأحراج والغابات؟ وكانت الإجابة: بالطبع لا".
التلوث يسلك طريقه من الصهريج
الى جسد المواطن
دفع المزارعون خلال هذا العام ثمناً باهظاً من رصيدهم الزراعي، إذ اضطرّ العديد منهم إلى إعادة زراعة مواسمهم خمس مرّات متتالية، في ظل غياب كليّ للأمطار الموسمية الكافية لري المحاصيل. وقد تضررت بشكل خاص مواسم الكرز والتفاح والعنب، بالإضافة إلى أشجار الأفوكا والخوخ ومشتقاتهما، حيث لم تنضج الثمار بالشكل المطلوب، وانخفض الإنتاج بشكل غير مسبوق.
لكن الأزمة لا تقف عند حدود الزراعة فقط، بل تمتد إلى أزمة أكثر خطورة تهدد صحة الناس بشكل مباشر، وهي أزمة تلوّث مياه الصهاريج. ففي ظل غياب مصادر المياه النظيفة وانهيار البنية التحتية المائية، أصبحت الصهاريج الخاصة المصدر الرئيسي لتأمين المياه للعديد من العائلات، سواء للشرب أو للاستخدام اليومي. إلا أن الكارثة تكمن في أن نسبة كبيرة من هذه الصهاريج تُملأ من مصادر غير مراقبة أو خاضعة للمعايير الصحية، كالمياه الجوفية الملوثة، أو من ينابيع وسدود مهملة، أو حتى من آبار قريبة من مكبّات النفايات أو شبكات الصرف الصحي.
وتشير تقارير وملاحظات ميدانية إلى أن هذه المياه غالبا ما تكون ملوثة بالبكتيريا والمعادن الثقيلة والمواد الكيميائية، ناهيك عن ازدياد نسبة الملوحة في بعض المناطق الساحلية نتيجة تسرب مياه البحر إلى الآبار. والأسوأ من ذلك، أن هذه المياه تُضخ مباشرة إلى خزانات الأبنية دون أي معالجة أو تعقيم، ما يجعلها مصدرا خفيا للأمراض الجلدية والهضمية والتنفسية، ويحوّل كل بيت إلى ساحة خطر صحّي صامت.
إن استمرار الاعتماد على هذه الصهاريج دون رقابة أو تدخل حكومي فعّال، يعني أن دورة التلوث قد اكتملت: من الأرض إلى المزروعات، ومن الصهاريج إلى الخزانات، ومن المياه إلى أجساد المواطنين. وهذا ينذر بكارثة صحية جماعية إذا لم تُتّخذ إجراءات عاجلة للرقابة والمعالجة وتوفير بدائل آمنة ومستدامة.
من بلاد الأرز إلى أرض قاحلة؟
أصاب التغير المناخي معظم دول العالم، فيما حذّر الخبير البيئي من أن لبنان قد يواجه واحدة من أخطر الكوارث المناخية في تاريخه القريب، إذا استمرت الأوضاع على ما هي عليه. فقد توقّع أن تشهد البلاد خلال السنوات العشر المقبلة انخفاضا حادا في معدلات السيول وتساقط الأمطار، مع إمكانية ألا تتعدّى نسبة المتساقطات 10 إلى 20% من معدلاتها السنوية المعتادة بحلول عام 2050.
وهنا تكمن الكارثة الكبرى، إذ إن استمرار هذا التراجع سيؤدي إلى تصحّر تدريجي، وتحوّل لبنان من بلد أخضر إلى أرض قاحلة. ستتلاشى الأشجار المعمّرة، وتتراجع الغابات، وتضمحل الأراضي الزراعية، ما يهدد الأمن الغذائي ويُدخل المزارعين في دوامة من الخسائر الاقتصادية والاجتماعية. كما أن التنوّع البيولوجي الذي لطالما ميّز لبنان سيكون عرضة للاندثار، في حين ستزداد موجات النزوح من الريف إلى المدينة، بفعل الجفاف وشحّ المياه وندرة مصادر العيش.
إن الخسائر لن تقتصر على الزراعة فحسب، بل ستطال النسيج البيئي والاجتماعي والاقتصادي برمّته. وبالتالي، فإن التعامل مع هذه التحديات يفرض تحرّكا عاجلا، من خلال سياسات بيئية مستدامة، وإستراتيجيات فعّالة لإدارة الموارد المائية، إلى جانب نشر الوعي بمخاطر التغير المناخي قبل فوات الأوان.
في مواجهة هذا المشهد البيئي القاتم، لا يمكن التعاطي مع الأزمة كمجرد خلل تقني أو نقص في الموارد، بل ككارثة وجودية تهدد حياة أجيالٍ كاملة، وتُنذر بتحوّل لبنان إلى صحراء عطشى. إن تدهور المنظومة المائية ليس مجرد انعكاس لتغيّر المناخ فحسب، بل نتيجة مباشرة لسياسات الإهمال، وسوء الإدارة، وغياب الإرادة السياسية لإنقاذ ما تبقّى. فكل يوم يُهدر فيه الماء، تُهدر معه فرصة جديدة للإنقاذ!
يتم قراءة الآن
-
هل تغزو الفصائل السوريّة البقاع؟
-
جهد رئاسي للوصول الى صيغة توافقيّة لحصريّة السلاح... وإلّا المجهول؟ حزب الله يزور عون في الرابية الاثنين... ولقاء قريب مع جنبلاط الانتخابات النيابيّة مفصليّة: الحريريّون باشروا التحضيرات... وتحالف «الاشتراكي» و«القوات»
-
عون في مُواجهة المخاطر: اشهد اني قد بلّغت لبنان بين خطابين... تباين لكن لا صدام داخلي إسرائيل تصعد...واتصالات لمنع انفجار الحكومة
-
الطفلة التي حاورت زياد قبل 29 عاماً: "منحبّك كتير بلا ولا شي"...
الأكثر قراءة
عاجل 24/7
-
12:56
الحكومة الإيرانية: الحوار مع الدول الأوروبية الثلاث بشأن الملف النووي يواجه "تعقيدات متزايدة"
-
12:56
الحكومة الإيرانية: التركيز الأكبر لدى دول "الترويكا" هو على تبادل وجهات النظر أما التفاوض بمعنى السعي للتوصل لاتفاق فهو غير موجود حاليًّا
-
11:16
القناة 13 الإسرائيلية: رئيس الأركان إيال زامير لا ينوي الاستقالة رغم ضغوط الحكومة واليمين عليه
-
11:02
الدفاع المدني أخمد سلسلة حرائق في بلدات الدبية والبرجين وبكشتين في الشوف وفي بدنايل ومجدليا – الكورة
-
10:47
الجيش اللبناني: ما بين الساعة 10.45 والساعة 16.00، ستقوم وحدة من الجيش بتفجير ذخائر غير منفجرة في حقل الدامور – الشوف".
-
10:39
"التحكم المروري":حركة المرور كثيفة من ذوق مكايل جونيه حتى مفرق غزير
