في قلب الأحياء اللبنانية، بات مشهد النيران المشتعلة بين أكياس القمامة، مشهدا يوميا لا يستفز الدولة، بقدر ما يستفز رئات المواطنين. فحرق النفايات لم يعد مجرد تصرّف عشوائي، بل تحوّل إلى سياسة أمر واقع يتّبعها السكان، والبلديات أحيانا، في غياب أي آلية منهجية لإدارة النفايات. وبينما تبدو المشكلة تقنية أو لوجستية من النظرة الأولى، إلا أن جذورها تتغلغل أعمق في البنية السياسية والثقافية والإدارية للبنان.
ثقافة التخلّص من النفايات بين الفرد والدولة
لعلّ ما يُميّز أزمة النفايات في لبنان، ليس فقط تراكمها أو سوء إدارتها، بل التواطؤ غير المعلن بين العجز الحكومي وسلوك المواطن. ففي ظل غياب حلول مركزية أو محلية فعّالة، بات العديد من الأهالي يتعاملون مع الحرق كحلّ مشروع، وأحيانا ضروري. وبينما تتحمّل الدولة المسؤولية الكبرى في التقاعس عن تطوير البنية التحتية البيئية، يبرز أيضا ضعف ثقافة الفرز من المصدر، وانعدام التوعية البيئية، حتى في المدارس والمناهج الرسمية.
ففي دولة فشلت في وضع حاويات مخصّصة للنفايات العضوية وغير العضوية في شوارع العاصمة، كيف لها أن تُقنع سكان القرى بفرز نفاياتهم أو منع حرقها؟
الحرق العلني خيار مقنّع بكارثة بيئية
المثير للقلق أن بعض البلديات، وخصوصا في المناطق الطرفية البعيدة عن العاصمة، لا تزال تلجأ إلى الحرق العشوائي والعلني للنفايات كخيار "واقعي"، تفرضه الضرورة، في ظل غياب الدعم اللوجستي والمالي من الدولة، وانعدام وجود مطامر صحية بديلة. لكن ما يبدو خيارا اضطراريا في الظاهر، يتحوّل عمليا إلى سياسة بيئية خطرة مغطاة بالصمت الرسمي. فبدلا من أن تتحرّك الجهات الرقابية لرصد هذه التجاوزات ومنعها، تكتفي بموقف المتفرّج، ما يُكرّس الحرق كسلوك مؤسسي غير مُعلن، بل كـ"خطة طوارئ غير رسمية" تتبناها الدولة دون أن تقرّ بها علنا.
من منظور بيئي، لا يمكن اعتبار هذا النهج إلا شكلا من أشكال العنف البيئي الممنهج، إذ يُحوّل الحرق العشوائي النفايات إلى سموم طيّارة تخترق الهواء، فتعلّق في رئات السكان، وتستقر في تربة مزارعهم، وتذوب في مياههم الجوفية. إن الدخان الأسود الكثيف الذي يتصاعد من محارق النفايات، لا ينذر فقط بتلوث موضعي، بل يشير إلى انهيار شامل في إدارة النفايات، وتدهور في معايير العدالة البيئية، حيث يُفرض هذا الواقع السام على المجتمعات الأضعف والأفقر، التي لا صوت لها في معادلة القرار.
وفي الوقت الذي تعتمد فيه دول متقدمة على تحويل النفايات إلى طاقة، من خلال تقنيات احتراق خاضعة لمراقبة بيئية صارمة، وفي إطار اقتصاد دائري مستدام، يُحوّل لبنان نفاياته إلى غازات سامة، تخنق أحياءً بأكملها، وتُسهم في تفاقم التغيّر المناخي، وتدمير التنوع البيولوجي. وبينما تُدفن الحلول العلمية في الأدراج، يُدفن الهواء النظيف في صدور الناس، حرفيًا.
المطامر وحرق النفايات:
تهديد مزدوج للبيئة والصحة العامة
يُشكّل الاعتماد على المطامر العشوائية وحرق النفايات المكشوف، أحد أكبر التحديات البيئية والصحية في العالم العربي. فعلى الرغم من أن المطامر تُعدّ من أقدم أساليب التخلص من النفايات، إلا أن غياب المعايير البيئية السليمة، يجعلها مصدراً خطراً لتلوث التربة والمياه الجوفية. تتسرّب العصارات السامة الناتجة من تحلل النفايات إلى باطن الأرض، حاملة معها مركبات كيميائية ومعادن ثقيلة تهدد الزراعة، وتلوث مصادر مياه الشرب، ما يؤدي إلى تراكم السموم في السلسلة الغذائية، ورفع خطر الإصابة بأمراض مزمنة.
أما حرق النفايات، خصوصا النفايات البلاستيكية والمختلطة، فيُطلق كميات هائلة من الملوثات الهوائية الخطرة، مثل الديوكسينات والفوران وأكاسيد النيتروجين والكربون. هذه المركبات لا تضر فقط بالبيئة، بل تُعدّ أيضا مواد مسرطنة تؤثر مباشرة في صحة الإنسان، وقد ربطتها دراسات علمية بزيادة خطر الإصابة بسرطان الدم (اللوكيميا)، وأمراض الجهاز التنفسي والخلل الهرموني. علاوة على ذلك، يُسهم الحرق في تسريع وتيرة التغيّر المناخي، من خلال إطلاق غازات دفيئة مثل ثاني أكسيد الكربون والميثان.
وفي ظل غياب سياسات وطنية فعّالة لفرز النفايات من المصدر، وتدويرها بطرق آمنة، تتحوّل هذه الممارسات إلى قنابل بيئية موقوتة، تدمّر صحة الأفراد ومستقبل الأجيال القادمة. الحل يكمن في تعزيز ثقافة الفرز والتدوير، وتبنّي تقنيات الإدارة المستدامة للنفايات، مثل التسميد العضوي، وإعادة التدوير الصناعي، والحد من إنتاج النفايات من الأساس.
نحو بدائل حقيقية!
ليس المطلوب إعادة اختراع العجلة، فالحلول معروفة ومتاحة: الفرز من المصدر، محطات تحويل حراري مدروسة بيئيا، دعم المبادرات المجتمعية، فرض رسوم عادلة على منتجي النفايات، وتفعيل الرقابة البيئية. لكن ما يُعيق تنفيذ هذه الخطوات هو غياب الإرادة السياسية الفعلية، وغياب أي أولويات بيئية في السياسات العامة.
أخيراً، إنّ حرق النفايات ليس مجرد مشكلة بيئية، بل مؤشر صريح على انهيار نظام الحوكمة في لبنان، وافتقار الدولة إلى رؤى طويلة المدى. وبينما يتصاعد الدخان من الحقول والمنازل والمكبات العشوائية، لا أحد يعرف من يحترق أكثر: النفايات أم الوطن نفسه!
يتم قراءة الآن
-
هل تغزو الفصائل السوريّة البقاع؟
-
جهد رئاسي للوصول الى صيغة توافقيّة لحصريّة السلاح... وإلّا المجهول؟ حزب الله يزور عون في الرابية الاثنين... ولقاء قريب مع جنبلاط الانتخابات النيابيّة مفصليّة: الحريريّون باشروا التحضيرات... وتحالف «الاشتراكي» و«القوات»
-
عون في مُواجهة المخاطر: اشهد اني قد بلّغت لبنان بين خطابين... تباين لكن لا صدام داخلي إسرائيل تصعد...واتصالات لمنع انفجار الحكومة
-
الطفلة التي حاورت زياد قبل 29 عاماً: "منحبّك كتير بلا ولا شي"...
الأكثر قراءة
عاجل 24/7
-
15:38
القوات المسلحة الأردنية: الطائرات حملت على متنها 36 طنًّا من المساعدات بإطار تعاون دولي لتعزيز جهود الإغاثة مع استمرار سوء الأوضاع الإنسانية بقطاع غزة
-
15:38
الأردن: نفذنا اليوم مع الإمارات وفرنسا وألمانيا 5 إنزالات جوية للمساعدات في غزة
-
14:40
تحليق مسيّرات فوق قرى في صيدا
-
12:56
الحكومة الإيرانية: الحوار مع الدول الأوروبية الثلاث بشأن الملف النووي يواجه "تعقيدات متزايدة"
-
12:56
الحكومة الإيرانية: التركيز الأكبر لدى دول "الترويكا" هو على تبادل وجهات النظر أما التفاوض بمعنى السعي للتوصل لاتفاق فهو غير موجود حاليًّا
-
11:16
القناة 13 الإسرائيلية: رئيس الأركان إيال زامير لا ينوي الاستقالة رغم ضغوط الحكومة واليمين عليه
