اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

من قبل دخولو الشمعة عطولو. قبل تسلم دونالد ترامب سدة الرئاسة الاميركية، قام بسلسلة تصريحات أرعبت، وما زالت، دولاً في أوروبا وفي القارة الاميركية وأرسلت إنذارات حول العالم. قال مثلاً إنه يريد تغيير اسم خليج المكسيك إلى الخليج الأميركي، واستعادة السيطرة على قناة باناما، وضم كندا كولاية أميركية رقم 51، وضم جزيرة غرينلاند التابعة للدنمارك. هذه التصريحات استدعت تصريحات سريعة مضادة، بالحدية المناسبة، من الدول المعنية. الرئيسة المكسيكية كلوديا شينباوم قالت ساخرة إن تصريح ترامب هو أقرب إلى فيلم سينمائي منه إلى تصريح سياسي. رئيس باناما خوسيه راؤول مولينو أعلن أن بلاده لن تتنازل عن متر واحد من القناة لأي كان. الرئيس الكندي جاستن ترودو قال لتلفزيون السي إن إن إن ضم كندا إلى الولايات المتحدة لن يحصل أبدا وأضاف «إن احدى الطرق التي نعرّف بها أنفسنا في كندا هو أننا لسنا أميركيين.»

هل يعني ترامب كل ما يقوله، أم بعضه،أو شيئاً آخر بالكامل؟ ماذا يريد ترامب تحقيقة فعلياً من وعوده وتوعداته؟ في عهده الأول (1916-1920) توعد ترامب ببناء حائط بين أميركا والمكسيك على أن تدفع الأخيرة كلفة بنائه، ولو عنوة، ما خلق توتراً كبيراً بين الدولتين. بنى ترامب قسماً من الحائط ولم تدفع المكسيك أي شيء. برر ترامب ذلك بالقول إن المكسيك دفعت بالفعل كلفة الحائط، ولكن بشكل غير مباشر، من خلال التعريفات الجمركية (غير صحيح). قال يومذاك أيضاً إن أميركا ستنسحب من الناتو، فقامت أوروبا ولم تقعد، لكن أميركا لم تنسحب وظهر لاحقاً أن تهديده بالانسحاب كان بالحقيقة لحث الدول الأوروبية على زيادة مساهماتها في ميزانية الناتو، أي كما ورد أصلاً في الاتفاقية. وأعلن قبل بداية عهده الأول أنه سيسعى لحل التجمعات الدولية المتعددة الأطراف، كالاتحادات التجارية وصولاً إلى الاتحاد الأوروبي واستبدالها باتفاقات ثنائية. إنسحبت أميركا فعلاً من «الشراكة عبر المحيط الهادئ» (TAPPA)، (ما شكل هدية غير مقصودة للصين)، ولكنه لم يسعَ إلى تفكيك الاتحاد الأوروبي.

للبدء بفهم هذا التخبط في سياسة ترامب الخارجية لا بد من العودة إلى كتابه الشهير «فن الصفقات» الذي يشرح فيه الأسس والمبادئ الواجب اتباعها في التفاوض وعقد الصفقات في عالم الإعمال والتي أكد لاحقاً ضرورة استعمالها هي نفسها في عالم السياسة. مراجعة للكتاب ولتصريحات ترامب اللاحقة ذات الصلة توصل إلى أربعة مبادئ أساسية للتفاوض:

أولا» المعرفة (knowledge): لا تدع خصمك يعرف كل ما تعرفه، دع ما تعرفه لنفسك، فالمعرفة تعطي القوة. ثانياً الضبابية (ambiguity): لتكن رؤيتك المعلنة ضبابية وغير واضحة للآخرين. وفي مقابلة تلفزيونية خلال عهده الأول قال ترامب: «أنا لا أريد أن يعرف الناس كيف أفكر.» ثالثاً عدم معرفة خصمك لكيف ستتصرف (unpredictability). وفي أحد تجمعاته الأنتخابية قال ترامب إن هذا المبدأ يجب أن يطبق، ليس فقط بالنسبة للقادة السياسيين بل أيضاً بالنسبة لسياسة الدولة الخارجية بشكل عام. رابعاً: ألمواقف الجدلية مستحسنة (controversiality) لا تخف منها فهي في النهاية لمصلحتك تعطيك ظهوراً إعلامياً أوسع. هذه الأسس الأربعة التي استعملها ترامب في مفاوضاته حول الصفقات التجارية قبل عهده الأول، وفي سياسته الخارجية خلاله، هي التي أكدها أمام حشوده الانتخابية ومقابلاته التلفزيونية في الانتخابات الأخيرة.

في هذا الإطار الفكري، ماذا إذا يريد ترامب أن يفعله بالنسبة للتهديدات الأربعة الآنفة الذكر؟

الوعد بإعادة تسمية خليج المكسيك تحقق بواحد من عشرات الأوامر التنفيذية التي وقعها ترامب في يومه الرئاسي الأول، رغم أنه من غير المنتظر أن تعمل به دول العالم بشكل واسع، وبخاصة أنه يتعارض مع تعريفات المؤسسات الدولية ذات الاختصاص. كما أعلن في أمر تنفيذي آخر تغيير اسم جبل دينالي الشهير في ألاسكا واستبداله باسم الرئيس وليام مكينلي. وللتذكير فمكينلي هو الرئيس الجمهوري الذي أعلن الحرب على إسبانيا في أواخر القرن التاسع عشر (1998) وانتزع منها السيادة على كوبا وبورتوريكو وغوام والفيليبين وعرف بسياسته في رفع التعريفات الجمركية الوقائية.

بالنسبة لقنال باناما فلا شك أن ترامب يعلم أنه من الصعب عليه إعلان الحرب على باناما واحتلال القنال بالقوة. السبب لهذه الهمروجة يعود إلى الخلاف مع دولة باناما حول توسع الصين في استعمال القنال وبناء الموانئ على طرفيه وعدم إعطاء أميركا، التي بنت القنال أصلاً، تسهيلات خاصة. مقاربته المبالغ فيها تتمشى أيضاً مع مبادئه للتفاوض الآنفة الذكر وتسمح له برأيه بدء مفاوضات حول التسهيلات المطلوبة والدور الصيني من مركز قوة لربما انتهاءً بإعطاء أميركا بعض الميزات في استعمال القنال والتخفيف من النفوذ الصيني عليها.

كلام ترامب عن ضم كندا إلى الولايات المتحدة يقع في السياق نفسه فهو يعلم أن ما يقوله مستحيل المنال. الهدف منه هو رغبة ترامب بتعديل «إتفاقية التبادل الحر لأميركا الشمالية» التي ألغت بشكل شبه كامل التعرفة الجمركية بين دول أميركا الشمالية الثلاث، أميركا، كندا، والمكسيك. ترامب يطالب منذ مدة بتعديل أو إلغاء الاتفاقية ما سيسمح له بوضع تعرفة جمركية 25 في المئة على بضائع الدولتين الشريكتين وموقفه المتطرف سيسمح له برأيه ببدء المفاوضات من مركز قوة.

أما طلبه شراء غرينلاند بالتراضي، مع إمكان انتزاعها بالقوة كما قال، فسببه على الأغلب أنه يريد دفع الدنمارك الى الموافقة على طلب أميركا بتوسيع وجودها في الجزيرة إلى أبعد بكثير من القاعدة العسكرية الأميركية الموجودة هناك بموجب اتفاق بين الدولتين، وهذا ما تعارضه الدنمارك. وقد يكون من المناسب التذكير هنا بأن شراء الأراضي وضمها ليس غريباُ في التاريخ الأميركي، إذ إن حوالى عشرين في المئة من مساحة أميركا تم ضمها من خلال شراءين: «شراء لويزيانا» من نابليون بونابارت، وشراء ألاسكا من القيصر الروسي إسكندر الثاني. وبالمناسبة، تشكل جزيرة غرينلاند أكثر من نصف مساحة الولايات المتحدة اليوم.

وهكذا فإن فهم عقلية ترامب في علاقاته الخارجية، وبالأخص عنترياته في هذا المجال، يبدأ بعدم أخذ هذه المبالغات بظواهرها بل محاولة فهم السبب الحقيقي لها.

ترامب في عهده الثاني يختلف عن ترامب في عهده الأول في مسألة أساسية: الهوس الذي يتملكه بأن يكون رجل السلام بامتياز. ظهرت هذه االرغبة للعلن في بداية عهده الأول، وأصبحت هوسا، بحسب ما وصفته جريدة الواشنطن بوست مؤخراً، بعد أن كان يتساءل تكراراُ لماذا ينال أوباما جائزة نوبل للسلام مباشرة بعد استلامه الحكم ولم يعمل شيئاُ يذكر لينالها، وهو، أي ترامب، لم ينلها حتى بعد نجاحه في تحسين التعاون بين الدول خلال عهده الأول، بإشارة إلى تطبيع العلاقات بين دول عربية وإسرائيل؟ وبحسب البوست كان ترامب ينتظر بصبر نافد، «لا ينام الليل،»على قولها، قبل كل إعلان سنوي لنتائج جائزة نوبل للسلام. ولاشك أن هذا هو سبب تسريع الخطوات للقاء بين ترامب ونتنياهو من جهة، وترامب وبوتين من جهة أخرى، حيث من المنتظر أن يصر ترامب بشدة على تهدئة الأمور على الجبهتين، ولو بشروط ظالمة، لعله يحصل، بعد طول انتظار، على الميدالية الذهبية 24 قيراطا التي تحمل صورة المخترع السويدي الشهير.


الأكثر قراءة

الأحد التاريخي: تشييع القادة واستفتاء شعبي على قوة حزب الله الانتخابات البلدية 2025: تحالفات ومفاجآت واستعدادات مكثفة الجيش اللبناني يقود الخطة الأمنية في يوم التشييع